وليمة بقلم محمود فودة
غريبا هبط بلدتنا الكبيرة، يعتمر قبعة سوداء، لا يتغير لونها، ولا تفارق رأسه، يلبس معطفا باليا يصل إلى نصف ساقيه، تقتحمه العيون بازدراء لهيئته الرثة، ومع ذلك سلب العقول، بحلاوة لسانه وحكمة منطقه، اتخذه العمدة مستشارا له، مكّن ذو القبعة بمكره العمدة من أن يضع يده على حقول القرية وبيوتها، اقتات أهل القرية ما يلقيه إليهم من فتات؛ حذرني أبي منه، وشدد عليّ ألا أطلعه على أمر زيرنا الذي نشرب منه ماء صافيا، بينما يشرب أهل القرية من الترعة، و شيخ الغفرالذي يتربص بنا سينتهز ذلك يسلبنا بيتنا الطيني، لا يمنعه إلا خوف العمدة وحاجته إلينا،
تردد ذو القبعة على بيتنا، بغية أن أصلح له قبعته القديمة أو أرمم معطفه البالي ذا الرائحة النتنة، فتنت بحديثه، اطمأن إليه قلبي، حكى لي عن تطلعاته، فأفصحت له عن نيتي في أن أصفي ماء الترعة للفلاحين ، في الفجر اقتحم الخفر بيتنا، تلقت رأسي ضربة من مؤخرة سلاح، قمت من نومي مذعورا حرزوا كتبي، اقتادوني معصوب العينين إلى حيث لا أدري ، وجدتني في حجرة مظلمة رطبة تزكم رائحة الكيروسين المختلط بترابها أنفي، قتلني القلق على أبي الهرم، بحثت عن سبب اعتقالي، أيكون ذو القبعة وشى بي، وهل ما نويته يعد جرما؟… لا إنه صديقي، لا أظنه يفعل… زارني في محبسي، سيل رجاءاتي لم ينقطع، وعدني أن يتوسط لي عند العمدة، عرضت عليه أن يمهلني حتي أتم حياكة وتطريز ثوب العيد للعمدة، ومعطفا جديدا له، ابتسم في خبث ووعدني بالخلاص جزاء إخلاصي… همس في أذني: إنها محاكمة صورية يا صديقي، البراءة مضمونة، بل سأجعل العمدة يقدم لك هدية مشفوعة بشكر جزيل أمام الناس.
حكت الثوب و المعطف بإبرة الرغبة في الخلاص، دعا العمدة الناس إلى وليمة صبيحة يوم العيد ، أقيم سرادق فخم اجتمع أهل البلدة بملابسهم الرثة، تلهج ألسنتهم بالشكر للعمدة الذي أطعمهم من جوع وكساهم من عري، خرج عليهم العمدة في زينته مشتملا ثوبه المطرز، بجواره ذو القبعة بمعطفه الجديد ورائحته المعهودة، أطال النظر إلى الناس، ثم ضحك ضحكا يشبه نهيق حمار، يقلب بصره هنا وهناك، فيزداد نهيقه، والناس يضحكون؛ لا أعلم أيضحكون مداراة للعمدة أوخوفا منه؟ اصطكت الآذان بنهيقه، لم يعهدوا العمدة على هذه الحال، صاح فيهم وهو يشير إليّ وأنا مغلول اليدين أرسف في قيودي، هذا مصير كل من تسول له نفسه أن يرفع حجرا عن حجر، أدركت الحقيقة، صرخت في الناس أن انهضوا، تخلصوا من هذا الحمار الذي أقضّ مضاجعكم، نظرت إليه بتحدٍ : إن كنت غللت يدي فلن تمسك لساني و تكسر إرادتي، شعر ذو القبعة بخطورة الأمر وقف دون العمدة متحدثا بهدوء : أيها المحبون لقريتكم هذا الشاب خائن ولا يريد لكم خيرا، انتزعنا منه اعترافا بأنه ينوي بيع ماء الترعة المجاني لكم، صحت بصوت مغلول : هذا كذب صراح، أتقبلون أن يتولى أمركم حمار، رد عليّ شيخ هرم من زاوية بعيدة في السرادق، حمار يتحملنا ويصبر على بلوانا خير من أسد يفترسنا و يأكل لحمنا، تكالب الخفر علىّ، دافعتهم ما استطعت، اقتادوني إلى حيث يقف العمدة، ابتسم ذو القبعة ماكرا، أخرج سكين الخيبة من معطفه بهدوء وناوله لأبي الهرم، فأغمده بيد جامدة في قلبي.
٢٠٢٠/٨/٢
التعليقات مغلقة.