قصة برلينية…. بقلم لينا نجم
لن أنسى ماحييت ذلك اليوم الذي جمعني بتلك العجوز ذات التسعين ربيعًا..فقد جمعتني بها غرفة في إحدى المستشفيات …كان أول عيد أم يمر على عائلتي الصغيرة آنذاك وأقصد أول عيد أم يمر على أولادي وهم مستوعبون معنى عيد أم …وبدؤوا بالتحضيرات وشراء الهدايا لي، ونفخ البالونات لملء غرفتي بها، فهذا أقصى مايستطيع فعله أطفالٌ في أعمارهم، تعبيراً عن فرحتهم بأمهم ..ولكن للأسف استيقظت في ذلك اليوم على آلام فظيعة تحيطني من معدتي إلى ظهري هبوطاً إلى أسفل بطني ..حاولت جاهدة ان أتناسى تلك الآلام؛ لكي لا أضيّع على أطفالي فرحتهم بهذا اليوم، ولكن دون جدوى أصبح الألم لايُحتمل ….حصوة في المرارة، ويجب عليّ البقاء في المشفى طيلة اليوم لإنهاء التحاليل اللازمة …
كانت تلك العجوز مستلقية على السرير حين أدخلوني إلى الغرفة، ووضعوا سريري إلى جانب سريرها ..كنت أسترق النظر إليها، فأجدها تسرق النظر إليّ في نفس الوقت…ابتسمت لها رغم كل أوجاعي ولكنني مالبثت أن أجهشت بالبكاء … أما هي فكانت دموعها تسيل على خدّيها بكل انسياب وكانت تحدِّق في الساعة كل فترة بسيطة، وتمسح دموعها ثم تغمض عينيها وكأنها تحلِّق في عالم مجهول ..كم تمنيت أكتشفه …اقتربت مني وسألتني بكل جرأة ما الذي يبكيكِ؟ قلت لها إنني موجوعة جدًا وماعدت أحتمل و أجد أن البكاء يريحني جداً …تجرّأت حينها وسألتها فوراً ماهو مرضك؟ ولماذا أنت هنا في المشفى ؟ لم أندم على شيء في حياتي كما ندمت لأنني سألتها هذا السؤال …( مارلين ) ظلت نصف ساعة دون مبالغة كلما حاولت أن تفتح فمها لتجيبني غلبها البكاء والدموع ولم تستطع الإجابة …ثم أخذت نفسًا عميقًا، ولملمت أنفاسها وقالت : أنا لست مريضة يا ابنتي ولا أشكو من شيء …اليوم عيد الأم و صار لي خمس سنوات لم أر ابني الوحيد ولم أسمع صوته، وكاد قلبي يتمزّق شوقاً ولو بنظرة إليه … إنه يسكن في نفس الحي الذي أسكن فيه ولكنه لايفكّر مجرد تفكير أن يسأل عني …افتعلت مرضي واتصلت بالمشفى وأعطيتهم رقم هاتف ابني ليخبروه أن أمك في المشفى لعل وعسى يحنُّ قلبه ويأتي لرؤيتي وها أنا ذا هنا منذ ثلاثة أيام…..!!!!!!!
اقتربت منها رغم وجعي الشديد وطبطبت على كتفها بكل حنان وقلت لها اعتبريني ابنتك وأولادي هم أولادك وبدأت أشرح لها عن مكانة الأم عندنا نحن المسلمين وكيف حفظ لها الإسلام هيبتها ورضاها وفرض برّها، وجعله السبيل الوحيد لدخول الجنة وكان الحديث كله عن الإسلام، كانت تبتسم وهي مبهورة بما أشرحه لها …كنت أقرأ في عينيها أشياء لا استطيع شرحها الآن ..كنت أقصد أن أركز نظري في نظرها وأنا أتحدث إليها فنظرة الحب والحنان التي تزرعها في عيون من أمامك ستؤتي أُكلها وثمارها ولو بعد حين …لم يقطع تلك النظرات الا صوت الممرضة ( مدام نجمة تعالي معنا للأشعة والتصوير ) في تلك اللحظة فقط انتبهت أن تلك العجوز كانت ممسكة بيدي وتشدها بقوة فسحبت يدي من يدها وذهبت معهم ….
بعد ثلاث ساعات أعادوني الى الغرفة …خلال التصوير والأشعة كنت طيلة الوقت أحضر في عقلي الأحاديث والبراهين التي سأقولها لمارلين ….
أين تلك العجوز التي كانت هنا؟ ( سألتُ الممرضة بكل دهشة)
للأسف لقد ماتت منذ ساعة وتم إخراجها ….يا إلهي يا إلهي! كم حزنت وكم بكيت وكم تألمت لن أنساكِ يامارلين ماحيييت …
لم تنتهِ القصة بعد …
بعد أسبوع توفّي أحد معارفنا، فذهبنا للمقبرة لحضور مراسم الدفن ( هي مقبرة مقسومة إلى قسمين: قسم للمسلمين على اليمين وقسم للمسيحيين على اليسار ) دخلنا البهو العام للمقبرة كانت الأمور غريبة هناك، أناس يتشاجرون وآخرون يعلو صوتهم، والمسؤولون يركضون من مكان لمكان، سألتُ أحدهم ما القضية ماذا هناك؟ ..قال لي حدث خطأ فظيع جاؤوا بتابوتين لشخصين أحدهما مسلم والآخر كافر وتم دفن المسلم في مقبرة الكفار والكافر في مقبرة المسلمين … ركضت وركضت بكل سرعة الى قسم المسلمين مكان تجمّع الناس هناك …من تظنون ؟! إنها مارلين العجوز مدفونة هنا بالغلط ….لا والله ليس بالغلط كنت على يقين إنه ليس بالغلط إنه من تدبير وتقدير رب العالمين …ما الذي دار في عقلك وقلبك أيتها المسكينه بعد أن غادرتُ الغرفة للتصوير الشعاعي ؟! ليتني أعرف ليتني أعرف …
والآن وبعد ثمانية عشر عاماً أدعو الله أن يكون الإيمان قد دخل الى قلبك أيتها الطيبة المجروحة ومازلت أدعو الله لك أن تكونين من أهل الجنة إن كنتِ حقاً قد آمنتِ بالله ورسوله …
هناك أحداث في حياتنا لا يمكن أن ننساها مع إننا نبكي كلما تذكرناها وهناك أحداث نتمنى أنها لو لم تكن موجوده في حياتنا فذكراها مؤلمة وجارحة …
لينا
رائعة ..الله يحسن خاتمتنا