لقاء نادر مع الاستاذ الراحل محمود أمين العالم
لقاء نادر مع الاستاذ الراحل محمود أمين العالم
ذهبنا إلى بستان ابين وكانت الرياح عاصفة
حينما زارنا الدكتور محمود أمين العالم كنا في سنة رابعة بكالوريوس. جاء الأستاذ من القاهرة في زيارة أكاديمية إلى جامعتنا؛ جامعة عدن مطلع عام ١٩٧٧م كان عمره قرابة ٥٥ عام فهو من مواليد (18 فبراير 1922 – 10 يناير 2009) حينذاك وهو مفكر يساري إنساني من الطراز الرفيع. عرفناه قبل أن نراه من كتبه ومنها؛ مواقف نقدية من التراث: دار قضايا فكرية – 1997.الإبداع والدلالة: مقاربات نظرية وتطبيقية-دار المستقبل العربي – 1997.أغنية الإنسان: ديوان شعر- دار التحرير 1970.كتاب “من نقد الحاضر إلى إبداع المستقبل “، مساهمة في بناء نهضة عربية جديدة – المستقبل العربي 2001. والإنسان موقف
معارك فكرية وهربرت ماركيوز ؛فلسفة الطريق المسدود والوعي والوعي الزائف في الفكر العربي وتأملات في عالم نجيب محفوظ. الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر الابداع والدلالة وثلاثية الرفض والهزيمة دارسة في أدب صنع الله ابراهيم. كما هو واضح من عناوين كتب الفيلسوف محمود أمين العالم كان مثقفا واسع الرؤية والأفق وبالغ العمق والتمكين المعرفي. وهو يعد أول أكاديمي عربي يبحث في فلسفة العلوم بحثا تطبيقيا «فلسفة المصادفة: بحث في الفلسفة العلمية يؤكد الأساس الموضوعي للمصادفة ويحدد دلالتها في الفيزياء الحديثة” ولعلها المصادفة التي جعلتني استحضر الأستاذ الراحل محمود أمين العالم الذي توفاه الأجل في ١٠ يناير ٢٠٠٩م لروحه السلام والطمأنينة. مصادفة مزدوجة الدلالة: إذ تذكرت أمس زيارته الأكاديمية إلى قسمنا في جامعة عدن ومدى سعادتنا واحتفاءنا بقدومه يومها إذ نظمنا على شرف حضوره رحلة ترفيهية إلى بستان الموز في مدينة باتيس الأبينية على مبعد ساعتين من عدن. جاء وهو يحمل أخر كتاب الفه( الوعي والوعي الزائف ) الجزء الثاني من كتاب معارك فكرية. كان رئيس قسمنا حينها هو الأستاذ الدكتور نمير العاني من العراق الشقيق وهو صديق العالم فكرا وموقفا. في تلك الرحلة التي تداعت إلى ذهني البارحة بسبب صورة من ذات البستان الوارف الظلال والثمار كانت سعادة الضيف الرفيع لا توصف بما احطناها من حفاوه واهتمام يليق به. طوال الرحلة ونحن نوجه اليه الاسئلة الفلسفية والشخصية كنت على مقربة منه طوال الرحلة: سألته عن فكرة المصادفة ودلاتها الفلسفة؟ ابتسم وقال لي: إنها نعيش لحظتها الآن الا ترى أنه مصادفة جميلة أن نجتمع هنا في هذا البستان الظليل على مقربة من بحر العرب الكبير .. واضاف لكن ما يتجلى بوصفه مصادفة له أسبابه فلا مصادفة في الطبيعة ولا سحر في التاريخ والأسباب أربعة: قريبة وبعيدة، ظاهرة وخفية وربما كان جهل الناس بالأسباب الخفية والبعيدة هو سر اعتقادهم بالمصادفات المفاجئة” كانت الرياح عاصفة في يوم الرحلة ما اضطر الأستاذ محمود الى ارتداء الكشيدة اليمنية لأول مرة في حياته. كانت يضحك ونحن نحاول تثبيتها على رأسه لتقيه من الرياح. ولعله من المصادفة أن تأتي بي الاقدار إلى جامعة القاهرة بغرض التفرغ العلمي وقد بلغت من العمر ذات عمر الاستاذ الراحل محمود أمين العالم ٥٥ عام. طوال مدة وجوده اعده القسم برنامجا مكثقفا للمحاضرات مع الطلاب. كانت محاضراته تحولا نوعيا في مسار قسمنا إذ حدثنا عن مسيرة حياته الفكرية وتحولاتها وحدثنا عن مؤسسته الأكاديمية؛ جامعة القاهرة التي تخرج منها وعمل فيها. إذ قدم الجامعة بطريقة خلبت لبنا ومنذ ذلك الحين وأنا أحلم بزيارتها. حاضرنا الاستاذ محمود عن الدرس الفلسفة في الوطن العربي ومعوقات نموه وازدهاره وهذا هو محور كتابه الوعي والوعي الزائف. إذ أشار إلى أن معظم الجامعات العربية لازالت تحرم تدريس الفلسفة بوصفها معرفة لا شأن للعرب بها فضلا عن أن الدول التي تسمح بتدريسها في الثانوية العامة وفي أقسام الفلسفة الحديثة لم ترتقى بالفلسفة إلى المكانة التي تستحقها فالمناهج سقيمة والمعلمين غير مؤهلين والنظرة الرسمية والاجتماعية التقليدية للفلسفة جعلت منها
نشاطا ديكوريا صوريا. كان يتحدث مبتسما وكان للهجة المصرية والقفشات الجميلة التي تتخلل المحاضرة مفعولا سحريا في الأذهان إذ كنا ننصت بشغف واهتمام وكأن على رؤوسنا الطير! ولم نمل أبدا من الاستماع على مدى ساعات طوال. كانت تلك الزيارة الوحيدة للاستاذ محمود إلى قسمنا بمثابة عصف ذهني لا مثيل له وهذا هو سر عدم نسيانها رغم مرور أكثر من أربعين عاما. رحم الله الدكتور محمود أمين العالم المثقف الذي كان يعرف عن ماذا يتحدث. كان فيلسوفا مهموما بالفهم وليس بالتلقين إذ كرر أكثر من مرة أن المعرفة إذ لم تتحول إلى ثقافة العارف لا قيمة لها ولا جدوى والمفاهيم هي مفاتيح العلوم وربما توافيني الذاكرة باشياء أخرى من ذلك اللقاء النادر مع الاستاذ الراحل محمود أمين العالم.تمنيت أن أراه في القاهرة التي أتيتها بتحفيزا لاشعوريا من ذلك اللقاء اليتيم في عدن. وهكذا هي الرموز تظل خالدة وعصية على النسيان، وضربات السيف تمحى أما ضربات الفكر والقلم فلها أجنحة تجعلها تحلق في كل مكان وزمان.
التعليقات مغلقة.