” سودوكو ” محمود حمدون
” سودوكو ” محمود حمدون
ستيني العمر ,على رغم بساطة مظهره إلّا أنه ما زال يستعصم بأناقة واضحة , بدلته بنيّة اللون وربطة عنقه , قيمصه المهندم , حذائه اللامع , , عبر الشارع بسرعة لا تناسب عمره , وبخطوة واثقة ويده اليمنة بجيب بنطلونه , أومأ لصاحب المقهى , الذي أسرع لتلبية إشارته , عندما مٌثل أمامه قال له: تحت أمرك , اتفضل.!
فتجاهل الرجل دعوته وانطلق في سرد مشكلته بصوت واضح سمعته وغيري , قال: لدّي حساب في ” البنك ” الفلاني , هو مبلغ كبير جدًا والحق لا أتذكر الآن كم يبلغ رصيدي بالتحديد .
لكن حينما رغبت في سحب ألف جنيه , وأردف بعد أن ابتلع ريقه : تدري بالطبع تكاليف الحياة فظيعة , مدارس الأولاد , الايجار والكهرباء ونظافة سلّم العمارة , كلها وغيرها أثقلت كاهلي فقررت أن ألجأ لمدخراتي بالبنك فلمن أتركها ؟ وكيف لا أستمتع بها وأنا حيّ الآن ؟!
لذا ذهبت إليهم في ” البنك ” وبأدب أخبرتهم غايتي , لكن قوبل طلبي بالرفض وتحججوا هناك وأشار بيده الحرة بعيدًا جدًا , ثم نظر إليّ وكرر عبارته : نعم هناااااك , فالتفتُّ إلى حيث أشار فما وجدت غير الطريق السريع وعربة اسعاف تصرخ كي تسمح لها السيارات بالعبور ..
فأجابه صاحب المقهى ببرود : غريب ما تقول , لمَ لم تتقدم بشكوى لقسم الشرطة أو للنيابة الإدارية ؟
فقال الرجل : فعلت , فعلت والله , لكنهم هناك أيضًا وأشار لبعيد ثم ألتفت إليّ بنظرة ودودة وأكمل حديثه: ذهبت إليهم لكن قيل ليّ : التمس العُذر ” للبنك ” ومن فيه , عُد إليهم وقبّل رأس المدير والموظف المسئول وتوسّل إليهم لإجابتك لطلبك..
قبيل عبارته الأخيرة كنت على وشك المشاركة في الحوار والإدلاء بدلوي فيه , لكن حين سمعته تركت جريدتي جواري ورفعت رأسي إليه , كأنّي أسأله أن يعيد ما قال من برهة , لعله أدرك مرادي فأعاد تلاوة حديثه الأخير, وشدّد على قوله: قيل ليّ قبّل رأس مدير ” البنك “, فأجبتهم وقدميه لو أراد شريطة أن يصرف لي الألف جنيه , لكنه أبى ورفض بشدة ولم يسمح ليّ إلاّ بتقبيل يده البيسرى بينما اليمنى منشغلة بتوقيع كومة كبيرة من أوراق أمامه , ففعلت , فلمّا انتهيت من التقبيل سمحوا ليّ بالخروج , لكنّي خرجت صفر اليدين , فماذا أفعل الآن ؟!
حينما أنهى الرجل الستيني كلامه ,كان الشارع قد امتلأ عن آخره بجمهور يستمع بشغف للرجل وعلى وجوههم تنسدل آيات من الأسى والحزن على مأساته فلمّا فرغ من حديثه انصرفوا كلُ إلى شأنه , صحبتهم أنا بعد أن فقد فنجان القهوة بريقه وغارت عنه رائحته وفشلت في حل ” سودوكو ” بأهرام اليوم ..
التعليقات مغلقة.