تخاطب الأقدار… هيفاء البريجاوي
تخاطب الأقدار…
هيفاء البريجاوي
من أعالي تلك الإطلالة الساحرة غزلت الشمس على أريكة أغصان الحور الوارفة سياجا من المودة بين
أفراد تلك المدينة الساحرة ،صبية الحي أبناء الخامسة عشر من العمر استسقتهم قطرات الشموخ ورعا وخشية الله تجسدت بحواراتهم الإنسانية الباشقة التي تتأهب منشطرة عبر مداد جذورهم العصية.
أحمد ابن العائلة الثرية بالمدينة كانت كل صبية في المدرسة تهابه احتراما وودا لأخلاقياته وسلوكياته الودودة للجميع .
كانت أغلب أوقات فترات عطلتهم يقضونها معه بمزرعة والده ،ويتعلمون فنون ركوب الخيل ويستمتعون بأجواء كلها مرح ومحبة تؤنس القلوب وتسعد الأفئدة .واهازيجهم وضحكاتهم تخاطب ارواحهم جمال صفاء مودتهم .
الليلة التي أدمعت السماء انتهاك معالم الإنسانية على أيدي طفولتنا البائسة ،من ضمن تلك الحلقة المغلقة من كوكبة الأصدقاء ماهر الصديق الأكثر فقرا بينهم ،خاصة بعد وفاة والده بالحرب ،والظروف القهرية التي نشأ فيها ، كان يخفي أحقاد دفينة من خلال سلوكيات كان يفتعلها لينتقص من شخصية أحمد أمام زملاء الدراسة وأساتذته ،لكن جمال روحه وتواضعه كان يطغى على أفعال يشهدها الجميع ويلمسونها بود وحب قلبه الجميل.
توالت السنون متسارعة تلو الأخرى ليحين موعد اعلان النتائج النهائية للعام الدارسي ، و الكل يتأهب ليعلم من سيحصد الفوز بالمنحة الدارسية ليتابع تحصيله العلمي خارج القطر على حساب الدولة.
لينال أحمد وماهر على نفس الدرجة التي تؤهلهما لمتابعة تحصيلهما الجامعي بألمانيا .
لكن الفرصة الأكبر كانت لأحمد لمركز نفوذ والده ،تظاهر أحمد بعدم رغبته بالهجرة للدارسة ليتنازل عنها لماهر ليلبي طموح عمره الذي طالما حلم به ليكون أكبر جراح على مستوى العالم ،وفعلا تم قبوله بالجامعة الألمانية لكنه لم يكن يعلم تفاصيل مافعله لأجله صديقه أحمد ،ليأتيه يودعه والغرور فاض من جوارحه المتعطشة لإشباع فقد وحرمان سنين عمره ،وكأنه يقول له سأصبح أغنى منك يوما ما ،وأتفوق عليك بمحبة الجميع واحترامهم لي ، وسأواصل مسيرتي الى ان اصل لمبتغاي .
هكذا تفرق الأصدقاء كل الى كليته ليتابع طموحاته ،وَكلَ أحمد أحد الأصدقاء من معارفهم أن يساعد أهل ماهر بشتى الطرق التي تلبي متطلباتهم دون ان يُشعِرهم انه هو من يمد يد العون لهم .
تتوالى السنون مسرعة يدخل أحمد كلية التجارة ليكون خَلف أبيه في ادارة أعماله المستقبلية ،خلال الإجازات الدارسية ،
كان ماهر يتردد للبلد لفترات وجيزة لزيارة الأهل ويلتقي الأصدقاء ليعلم منهم في إحدى الاجازات من خلال تبادل أحاديثهم أن أحمد يعاني من مرض خبيث ويتعالج في مراحله المتقدمة .
تجاهل الأمر لضيق الوقت وضرورة العودة لمتابعة استخراج أوراق التخرج ،،،دون أن يلتقي صديقه أحمد ،وماهي الا أسابيع قليلة يُعلِمه صديقه ان أحمد توفي .،تلقى الخبر ببرود استفز صديقه بغضب جامح ،ليعلمه أن ماوصلت إليه من تحصيلك الدارسي لتتابع حلمك، ومن كان يدعم أهلك ويهيئ لهم مجالات العمل حتى لا يشعرهم بتفضل عليهم هو أحمد ،أسفي عليك يا ماهر يرددها بسخط عارم ، ليقع الجوال ارضا من يديه اللتين تجمدتا؛ لكن سرعة نبضات قلبه ونيران الحقد التي استفحلت جوارحه سرعان ماحوله لكتلة متجمدة بذهول جعله يتعثر طريقه ليسقط ارضا ،وصوت بكائه يتواتر باختناق دموع تحترق لهيبا متقدا كيف هزمته انانيته عن تأدية رسالته الإنسانية مع من خان عشرته لأقرب صديق مد له يد العون وفضله عن ذاته، التي باعها بعجرفة قلبه الفظ التي أعمت بصيرته عما كان يفعله لأجله ليعاود سنينهم بهذيان تارة ،تتعالى صرخات الندم تحرق فؤاده تارة أخرى ،تتصدره أنفاس صوت نحيب قاتل يستبيح روحه الصماء التي أعماها الحقد أن يرى نبل وطهارة أعظم روح مدته هذا الحب ليقابله بالجحود والخذلان مستصغرا نفسه بعين ذاته .
لسنين ليست ببعيدة وأثناء خروجه من مسجد كان قد بناه لأحمد بألمانيا وأسماه (مسجدالأحمدي )قريبا من مشفاه هناك .
كان يرافقه مسيرته بنبل قلبه الذي استفزها من رماد قلبه المتعجرف ،وحينما روى قصته لشيخ المسجد بيوم ذكرى وفات صديقه أحمد المفاجئة التي لم يخطر له ان يضعه القدر بين يديه ان إمام المسجد ابنه لأحمد الذي أراد ان يحقق طموح والده ،ليكون فقيه الجالية العربية خارجا وهو يتم تحصيله العملي هناك ،
ابن ذلك الرجل الطائي بخلقه ونبله وعفاف روحه ، ليتابع وصية والده لرسالة سامية غرس فيه بذور أصالته ،ويحقق حلم أبيه خاصة أنه فقده بغفلة استفزت بسالة مواصلة مسيرة أبيه بشجاعة .
تنهار قواه لماهر مرتميا بساحة إقامة الصلاة وصوته الأجش تتقطع أنفاسه ،لتشاء الأقدارأن يكون ببيت الله موعد تخاطب الازمان، ليحتضنه بين ذراعيه بقلب ما زال حيا أفلح بأعماله الخيرة أن يورثه إياها والده بخصاله النبيلة التي لن تفنى بقلب أوطان العالم أجمع.
بقلمي//هيفاء البريجاوي//سورية
التعليقات مغلقة.