الغائب
قصة قصيرة بقلم حنان الهواري
يتسمر الجميع في أماكنهم، عندما يسمعون هذا العواء الذي دأبوا على سماعه ورغم ذلك لم يزل يصيبهم بالهلع
لم يكن ذئبا ولكنه صوت سبعية، تلك العجوز التي غفل عنها الموت، رغم أنه لم يدع الموت لها أحدا.
ندهتهم النداهة هكذا كانت تقول عندما يسألونها عنهم .
كانت تجوب الشوارع والأزقة في النهار وفي الليل تجلس أمام دارها تسرج قنديلها وترفعه متطلعة إلى القادم المنتظر، الذي لم يأت أبدا ولم تكف هي عن إنتظاره، حتى مع أعتى قرصات الشتاء التي كان الجميع، يفرون منها إلى بيوتهم.
تعجب الجميع عندما زار فتى غريب، قريتهم النائية على أطراف النيل والتي تغمرها المياه من وقت لآخر .
لم يكن يشبه أهل القرية، بسماره وعينيه الزرقاوين .
دخلها في وضح النهار، لم يلتفت ولم يسأل أحد وكأنه قد خبر طريقه جيدا، كل من رآه عرف أنه غريب عنهم إلا هو، تبعه بعض الفتية ليعرفوا إلى أين سيذهب ؟!.
حتى وقف أمام بيت العجوز سبعية، التي طار عقلها بعد موت أولادها جميعا، لم ينج منهم سوى وهدان ، يسمعونها تنادي باسمه في أحايين كثيرة .
تتعمد كل يوم أن تجلس في محطة القطار متربعة وعينيها لا تفارقان الآيبون إلى قريتها .
و في كل مرة تعود بخفي حنين فلا هو يعود ولا هي تتوقف عن مناداته أو إنتظاره .
تحرث أرض سنواتها، تبذر فيها الشوق واللهفة وترويها بالدموع
خمس وعشرون عاما مضت، انحنى ظهرها، فتزنرت بشال قطني كان لزوجها، فتبدو وهي تسير حاسرة الرأس، تكاد يداها تلامسان الأرض، كذئب عجوز .
تدخل بيتها في غبش الليل، يسمعون حديثها مع نفسها ومع أشباح أولادها .
في هذا اليوم دق بابها، مضى وقت قبل أن تفتح؛ لتجد هذا الشاب أمامها .
نظرت إليه ثم جذبته من صدره، تتشممه فندت عن شفتيها اليابستين الخاليتين من الأسنان إبتسامة واهنة .
ثم أفسحت له الباب؛ ليدخل .
اجتمع الناس أمام الباب، يتعجبون مما حدث فلم تسمح سبعية لأحد أن يدخل بيتها منذ رحيل وهدان .
يتذكرون هذا اليوم عندما عاد وهدان بأخيه سعدون، يحمله على كتفه وقد فارق الحياة .
لم ينتظر حتى يدفن أخيه التوءم ، ولم يروا دمعة سقطت من عينيه .
غادر دون كلمة، ظن الجميع أنه في حالة صدمة وسوف يعود بعد يوم او يومين ولكن مر خمس وعشرون عاما وهو بعيد، حتى نساه الناس إلا سبعية وكيف تنساه وهو آخر مابقى من ذريتها .
في الصباح كان بابها مفتوحا على مصراعيه.
انتهز الجيران الفرصة؛ ليروا هذا البيت الذي أغلقته على نفسها كل هذا العمر، مات من مات منهم وولد جيل جديد كلهم يعرفونها أطفالا وشبابا وكبارا ولكنهم يتحاشون النظر في عينيها التي أقسم من رآها أنها ابيضت من الحزن على ولدها الغائب. خيم الصمت على كل من دخل البيت، حتى الصغار لا تسمع لأحد منه صوتا ولا حركة وكأن على رءوسهم الطير وهي ممددة كخرقة بالية، تحتضن صورة وهدان وعلى وجهها إبتسامة رضا وقد عادت لوجهها نضارة الشباب.
لم يكن الشال القطني الذي كان حول خصرها موجودا، بحثوا عنه وعن الشاب الذي زارها بالأمس فلم يجدوه. ترددت الأقاويل وكثر الحديث عن كنز كانت تخفيه سبعية لوهدان في هذا الشال، بل أن بعضهم ذهبوا بعيدا فقال أحدهم: أنه رأى الشاب يركب المعدية التي تنقله للبر الثاني من النيل وهو يضع شال سبعية حول عنقه وفي يده حقيبة صغيرة.
تزاوجت الأقاويل وانتشرت في القرى المجاورة عن تلك العجوز فصارت سبعية أسطورة، كأمنا الغولة يقصونها على صغارهم
دفنت سبعية وأغلق البيت وظل الناس يتساءلون عن هذا الشاب وماذا حدث بينهما؟ وماذا قال لها حتى تموت على هذا الحال بعد سنوات من العويل والصراخ ؟!.
ولكنها مضت مع سرها وسر ما جرى لوهدان .
تمت
التعليقات مغلقة.