” هلوسة” بقلم دكتورة شيرين الملوانى
” هلوسة” بقلم دكتورة شيرين الملوانى
كانت عقارب الساعة تتجه لإنقضاء يوم من أيام باريس …أطاعت الطبيعة مراسم الطقس الشتوى المُعتم؛ بسكب ثلوجها على شوارع ضيقة جانبية وضبابية. ظلام رمادى داكن يفيض بظله على حانة جامعة لجنسيات عربية مُغتربة ،بخرالأنفاس يُغلف زجاج المكان كاتماً دخان تبغ مُحترق من صدورأضنتها الغربة والعوز؛ نفوس مهترئة بماضِ فروا منه وتئن بواقع أكثر مرارة؛ سارحة فى ملكوتها قابعة فى أركان حوائط خشبية داكنة وإضاءة خافتة خفوت الأمل ،صوت أم كلثوم يصدح ( جددت حبك ليه ..ليه بعد الفؤاد مارتاح)…وآهات مكتومة تعلو صدره ولسانه يلوك بحسرة كلمة( ليه) ،مُتكئاً على عكازه سانداً رأسه الأشيب براحته…تدلت تجاعيد وجهه مثلما تدلت تضاريس جسده ؛فضَاحة لكهولة تعدت تاريخ ميلاده فى بطاقة الهوية،وهنت ساقيه وفاقتهما ذاكرته وهنا.ً
كانت هذه الحانة أول بقعة وطئتها قدميه وقت وصوله لعاصمة النور،طرَيداً من بلده باحثاً عن رزق مأمول ،مهاجرغير شرعى أتى ليزاحم أصحاب الحقوق فى بلد شعاره العدل و القانون وباطنه التمييز،عمل بالأسواق والمراحيض، رفع حقائب الركاب وإستقبل الثلوج فى صقيع الفجر قابعاً بجوار الصحف لتوزيعها، مختتماً نهاراته المتشابهة بركض من الشرطة وقافزاً فوق الحواجز والأسوار ؛صدره يعلو ويهبط وحبات عرقه تجف فوق جبهته مثل حلقهِ متسائلاً ؛أين الأمان ؟ أين الحلم المنشود؟ أين الغد البهىَ؟ ،تلفت ولم يجد سوى حانة المطاردين ،بلهجات مختلفة ووجوه متشابهه فى الحيرة ؛يجمعهم هذا المكان ويفرقهم نهار السعىَ ، وها هو بعد سنوات طوال من التيه وجد نفسه قابعاً فى نفس المكان بملابس بالية وقروش معدودة بلا حلم .
تذكرها وإستحضر طلَتها فى ذلك المساء القارس وعلى نفس الطاولة منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، دنت ؛ جميلة بضَة شغف شفتيها يداعب فحولته وحرمانه ،إستعاد نظراتها ،مختلفة هذه المرة ؛عيون جريئة وحادة تدعمها نبرة تعالى حاملة حديث عن كثرة طالبيها وتحقيرلعاطفة نشأت بينهما متبوعة بمحو لوعود وردية سابقة .أحس تباهيها بصيدها الثمين ،لسانه عجزعن مجاراتها ، إنعقد لسانه وهمس بداخله ماذا فعلت بنا بلد المأوى والملاذ ؛جئنا باحثين عن الحرية فكُبلنا ،ظننا فى الأيام رزقاً فأضنتنا الليالى جوعاً،تعشمنا فى الحب ورحابة أفقه فما وجدنا إلا صدود ومكيال بغيض. وغادرت تلبى نداء حلمها و غادرهو فى دنياه ، آملاً فى الغد ؛ إلتهى بسعيه ومطارداته ،حاصره إخفاقه وتذوق صعوده سويعات ثم إستسلم لمصير مطموس كطمس جواز سفره .
فُتح الباب دخلت الهيفاء الثلاثينية البيضاء المدثَرة بمعطف أسود قصير إنسدل شعرها الأحمر فوق كتفيها عاكساً وجه برىء بشفتين ورديتين…نظراتها زائغة تبحث عنه لعله سبقها…جلست وأشعلت سيجارة بأصابع مرتعشة ،تُرى جاءت لتفى بوعد أم حضرت لتنهى عهد؟..نظرالكهل لها ، دبت قشعريرة فى أوصاله وأحس بنشوة تسرى فى هيكله ،تدفقت الدماء فى عروقه وقد ظن جفافها من سنوات،تراقص بصره مستحضراً شبيهتها من سنين مضت ،هم أن يناديها بإسمها الذى إستعذبه منذ زمن، ،نزغته نفسه أن يقترب وكانت لهفته سبَاقة. إنتفض بالمتبقى من حواسه وإدراكه ،تعثرت عصاه ،خانته قدماه مثل أيامه ، سقط فوق لحمة المتهدل ،تكوم ككتلة بلاحراك ؛رأسه مُسند على الحائط وعيناه تنظران صوبها ،إبتسامة ضعف وحنين تعلو شفتيه بينما هى تهم لنجدته ؛ إقتربت باسطة يدها نحوه ،إنحنت لإنتشاله ، نظرلها وعيناه تلمعان مهمهماً بعربية جذوره : (هو إحنا فى سنة كام ؟).
تمت …
التعليقات مغلقة.