هارب من الموت قصة قصيرة بقلم محمد كمال سالم
يوم نبشت أول قبر, جاءني ملك الموت متوعدًا:
يوم أن أقبض روحك, سأقبرك في قبر من زجاج, كي تكون عبرة.
هو لا يعرف غايتي, أقتات منها نعم, لكنها هوايتي التي لا أعرف العيش بدونها.
بخرج خاوٍ أحمله على ظهري أنا “مشكاح” أجوبُ الأرض وقد خَلت من سكانها!
فقد مات الخَلق منذ عدة سنوات.
يوعز ليِ إبليس ويوسوس:
ملك الموت قادم من فوره, إهرب من هذا الطريق، مادمنا أنا وأنت أحياءً، فلن تقوم الساعة, ولم يبق على الأرض سوانا.
وأنا مشكاح يا سادة.. أنا نبَّاش القبور.
أنا وزوجتي (ريما) منذ بدء الخليقة, من لدن آدم ليومنا هذا معًا… هي تسرق أكفانهم, وأنا أسرق حليَّهم وأسنانهم الذهبية البديلة، وأنا يا سادة لا أعرف إلا معاشرة الموتى وزيارة قبورهَم, أعرفهم واحدٌ واحداً, أنا صديقهم وجليسهم المُقرب.يعرفوني، يسعون إلي، يحدثونني طوال الوقت.
تاهت ريما مني في يوم أُبيد الخلق فيه, وتعبت أنا من البحث عنها، أنقّب عن كنز يغنيني، لعل الله يُعيد الخلق.
أعرّج على أطلال مندثرة, أبحث فيها وأفتشها, لعلي أجد كَنزي, أقلبِّ في الأنقاض, أحجار وعظام وجماجم.
لا شئ هنا لمشكاح, غير بعض أحاديث مع أصدقاء أتناول جمجمة ناصعة تكاد تضحك, أخاطبها
مرحبا قاضي الكوفة, سبعون عام تفصل بين الناس وتحكم, منذ أن ولاك الفاروق! سبعون عام عدل ياشُريح، أمر عليك كي لا أنسى.
لا شئ في فمك من أسنان ذهبية, أظن أني قد أخذتها من قبل, سأفتش في رأس غيرك.
هذه جمجة غاضبة، يسألني سؤالًا لطالما أجبت عليه, وها أنا أجيب سؤاله مرة أخرى:
يا حامل خاتم السلطة: لم يغدر بك الرشيد يا جعفر البرمكي؟ أعرف أنك كنت المقرب إليه، لكنّ الصغير كبر، ماعاد يمكن السيطرة عليه, أدرَك أطماع عائلتك القديمة ،لكن مازال يراودكم ذلك الحلم.. أليس كذلك؟!
أمعِن النظر.. ألتقط جمجمة جديدة،
هأهأهأ أنظر ياجعفر, هذا صاحبك, ألم تعرفه؟
هذا بهلول الرشيد, (أبي دلامة) مضحك السلطان, ألا تراه كيف هو فاغر فاه للأبد, لا تدري إذا كان يضحك, أم مازال جائعا.
ليتك فعلت مثله يا جعفر وأعفيت نفسك العزل والسجن, بعض نكات وكثير من الدراهم والعطايا هأهأ, هذا أيضا ما جلبتموه معكم يا جعفر, لم يكن يعرف العرب بهلولكم هذا.
أرني أبي دلامة ماذا تبقى لديك؟
لا شئ لمشكاح المسكين؟ درهم أو دينار؟ ما بالكم أين حليكم؟لم تتركوا لي إلا ثرثتكم.
أصبح مشكاح حزينًا الآن , أين أنت ياريما؟
أنا جائع, ليتني أجدك, ولن أبطُر على خبزك اليابس, أو صحن الزيت ثانية.
أصبحت الدنيا قبرًا كبيرًا, ما عدت في حاجة لنبش القبور الان,أتراها من علامات الساعة؟
لا يهمني…
منذ بعيد وأنا هارب من الموت, سآوي الآن إلى ركن يعصمني من لهيب الشمس, فقد أصبحَت فوق رأسي.
جمجمة سبقتني إلى الظل, تناولتها بين يدي:
أتتوارى مني في الركام؟ أتحسب أني لن أعرفكَ؟ً
أرفعكَ الناس فوق الأكتاف؟ كانوا يحسبونك زاهدًا ورعاً تعمل لصالحهم, بينما كنت تؤلف لهم جواسيسك ليفتكوا بهم, ذاع صيت عدالتك ونصرتك للمظلوم وأنت محتسب البلد.
.. يا بركات بن موسى, أحسبك تعذب الان في الجحيم.
يمرق إبليس أمامي فجأة كالسهم, يناديني:
إهرب يا مشكاح, ملك الموت قادم في أثري, إهرب قبل أن يدركنا وتنتهي الدنيا.
ألقيت الجمجمة من بين يدي وصحت فيه:
لن أبرح حتى أجد كنزي, أو أعثر على ريما زوجتي.
إبليس: ريما ماتت أيها التعس!
كاذب أنت, ريما يهابها الموت, ريما مرت من هنا تسبقني كعادتها, أنظر…. ما أبقت لي كفنا أو خرقة بالية, أو سنة أو ضرس من ذهب, كلها أفواه فارغة
.
أصرخ غاضبًا : مال هذا المكان وهؤلاء الناس!ألا تملكون شيئا؟!
بقايا عظام وركام صامتة يا لبؤسكم وبؤسي بينكم, أما من كنز لمشكاح المسكين؟!
أجول ببصري أبحث, أفتش, فإذا برأس أعرفها, نعم أعرفها, إنها ريما زوجتي, أي مصيبة يا مشكاح..
أمد يدي، تصطدم بجدار من زجاج, تسقط أصابعي , بجانب بقايا هيكل عظمي كأنه لي….
التعليقات مغلقة.