عِواءٌ قصّة قصيرة بقلم عاشور زكي وهبة
صعدَ الخطيبُ العجوزُ المعروقُ منبرَ مسجدِ القريةِ الجديدِ وشرعَ يُلقي خطبةَ الافتتاحِ على مسامعِ جموع المصلّينَ المبهورين بطلاء الزيت المدهون به حوائط المسجد. وأسماء الله الحسنى مكتوبة بخطّ بديعٍ على امتداد الجدران كأنما تشكّلُ سياجًا واقيّا للجامع تمنعُ الشياطينَ وأعوانهم من الاقتراب. والمنبر مطليٌ بدهانٍ أبيض رائقٍ لا ينسجمُ مع وجه الواعظ الكالح كرأس هدهدٍ بطاقيته الحمراء الفاقعة.
ولم لا يلفتُ ذلك أنظارهم؟ إذ أنّ هذا لا يرونه في أغلب منازلهم الحقيرة التي تقترب في حالتها المزرية من الأكواخ.
كما أنّ بالبلدة مسجدينِ أخرينِ يشكوان من ندرة المصلين الركّع السجود.
لكن لا ضير! أليست كلّها بيوت الله في الأرض وعلينا إعمارها؟!
ويا بخت مَن يؤتى سعة من المال، ويبني بيتًا لله يكون له قصرًا في الآخرة. إذ يرجع الفضل في بنائه إلى أحد المقتدرين في الكَفر. تبرّع بقطعة أرض كانت بورًا ولا يمتلك غيرها.. لكن الله وسّع عليه في الدنيا وأعطاه أضعاف مساحتهابفضل أولاده الكثر العاملين في الخليج. هذا بجانب الجزاء الجزيل الذي ينتظره في الآخرة.
إذن فهذا المتبرع لم يكن من الميسورين؛ بل من المؤثرين على أنفسهم. لكن لا يمنع هذا من أن يُوَظّفَ في المسجد الجديد أحد أبنائه أو محسوبيه ما دام سيتبع أوقاف الحكومة ويحتاج إلى عمّال وموظٍفين يتقاضون راتبًا شهريّا.
وكانت هذه النقطة موضع خلاف بين شباب البلدة وشيوخها حول نية المتبرع؛ أهي لله فعلًا؟ أم لحاجةٍ في نفسه قضاها؟
على أي حال، ها هو الواعظ الكالح الوجه يمسكُ الميكروفون كالقابض على قطعة لحمٍ مُشتهاه، إذ يكاد يضع فوهته في فمّه الخرب، وهو يحدّق في المصلّين ببصره الكليل ذات اليمين وذات الشمال صائحًا فيهم بالترغيب في الثواب تارةً وبالترهيب من العقاب تاراتٍ أخرى.
وفي لحظةٍ من لحظات إحراقه للناس بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة، تثاءب أحد المصلّين تثاؤبًا غريبًا. فما كان من الخطيب المندمج في دور زبانية العذاب إلا أن نظر شذرًا بعينيه الضيقتين الضائقتين صوب القوم الفاغري الأفواه من هول العذاب الذي يصُبّه فوق رؤوسهم صبًا.
وساد الصمت برهةً، خال القوم أنّ الواعظ سيلقي عليهم من فمه ألسنة اللهب كالتنين، ويسقط عليهم الأفاعي والحيات والعقارب التي يخبئها في جيوب سرواله الفضفاض، وحينما يشعرون بالجوع سيطعمهم الزقوم طعام الأثيم والغسلين صديد أهل الجحيم.
أما حينما يقتلهم العطش يسقيهم المهل يقطّع أمعاءهم.
لكن الخطيب لم يفعل شيئًا من هذا القبيل؛ بل أطلق تساؤلًا بنبرة مُحققٍ حانقٍ يستجوبُ مُجرمًا عتيدًا، أو بلهجة معلّم يختبرُ تلميذًا بليدًا:
- مَن الذي عوى كالذئبِ؟!
وما دام القوم قد جُبلوا على التلقي في شتى مجالات حياتهم، فقد أجابت عيونهم بالنظر تجاه العمود المستدير الضخم الذي يتصدّر المسجد، ويقبعُ أسفله مرتكنًا صاحبنا “المؤثر ” كأنما هو عمود هرقل أو مسمار جحا. إذ لم يجرؤ أحدٌ على الاقتراب من هذا العمود المرصود احترامًا وتأدبًا ورهبةً من هذا الشخص الجليل القدر.
كما أن الواعظ أظنه كان ينتظر أن ينتفض أحد الحاضرين الخاشعين لنجدته، ويقبض على هذا المتثائب ليعلقه في النجفة، أو يشنقه على باب المسجد ليكن عبرةً لمن يعتبر.
إذ ربما يكون هذا التثاؤب الشاذّ قد أنساه بعض مشاهد الجحيم، او يكون قد شوّشَ على زبانية العذاب في جلدهم للمصلّين المصطلين بجهنم وبئس المصير، وقد استعذبوا هواء المراوح الذي وقاهم شرّ القيظ في خير يوم طلعت فيه الشمس.
او ربما ظنّ الواعظ أنّ هذه الملحمة الجهنمية سوف تقلق مضاجعهم ليلًا، فإذا به يجد من يعوي أقصد يتثاءب في خضم تجسيد المأساة. فيا له من ممثل فاشل!
لقد أوشك ان يرى الدموع تهطل لتطفئ هذه النار المتأججة التي يقذفها عليهم..
لكن الخطيب أشفق على هؤلاء المعذبين في الأرض، وينتظرهم العذاب الأليم في الآخرة؛ فتمنى لو منحهم صكوك الغفران. لكنه قال بعد أن أتمّ الجزء الأول.. أقصد الخطبة الأولى:
_ توبوا إلى بارئكم لعلكم تُرحمون!
وارتفعت أكفّ القوم بالدعاء، استطاع الواعظُ خلال هذه اللحظة أن يرى التذمر يرتسم على وجه المُتبرع صاحب العمود، ولاحظ جرمه الطويل الممتلئ رغم جلوسه وهيئته المهيبة الورعة، ورغم مسحة الغضب التي كست ملامح وجهه الغليظ المنتفخ؛ فازدرد لعابه، وصمّم أن يكفئ على الخبر (ماجورًا) ليبقى الطابق مستورًا.
إذ لولا هذا المتثائب ما جاء هنا ليقصّ فصول جهنم ويصفّ دركها الأسفل _
حيث فرعون وهامان وجنودهما الخاطئين- على هؤلاء البؤساء المتعطشين إلى جنّات عدن والفردوس الأعلى وحور العين اللاتي ستريحهم من “الغفر” الرابضات في أكواخهم التعسة يشاركنهم ثالوث الشؤم..
لكن المتثائب الكريم – صاحب العمود- لم يغفر له هذا الزلل اللساني الشنيع والتعليق التهكمي المريع، وهو الحمل الوديع يصفّه بالذئب وسط هذا القطيع.
فقالت نظرته الحديدية للواعظ:
_ إنّي أتثاءب في أرضي، أقصد في أرض الحكومة، أقصد – أعوذ بالله – في أرض الله؛ ما شأنك أنت يا صاحب جهنم؟!
وكي يكيدَ الخطيب عوى، أقصد تثاءب ثانيةً. غضّ الواعظ الطرف عن هذا الاحتجاج العاوي، وتابع حديثه عن الله والرسول والشهداء والصدّيقين والمتبرعين المتصدّقين وحَسنَ أؤلئك رفيقًا. وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله!
وبعد انتهاء الصلاة تأسفَ الخطيبُ لصاحب العمود المتثائب.
وبعد خروج المصلين انبرى أحد المتحذلقين في اللغة ليقول:
_ إنّ نبح من النباح وهو خاصية الكلب أو صوته؛ أمّا عوى من العواء وهو صوت الذئب.
كما علّق أحد المتفيهقين في الدين:
_ إنّ هذا التثاؤب الشبيه بالعواء الذئبي وليس الكلبي كفيلٌ بطرد الشيطان من على فمّ المتثائب، كما يمنع إبليس اللعين من أن يبول في فمّه.
أليست الحيوانات وحدها ترى الشيطان فتعوي وتنبح وتنهق وتنعق مما يجعله يبتعد عن صوتها النكير، ولا يسكن بدنها؟!
إذن من الأمور الفطرية أن نقتدي بالحيوانات. أليس هم معلمونا الأوائل؟
من الذي علّم أبونا قابيل القاتل كيف يواري سوءة أخيه هابيل التقي؟ إنّه الغراب!
هزّ الحاضرون رؤوسهم بالاقتناع خاصّةً الواعظ والمتقعر في اللغة والمؤثر المتثائب الذي أراد أن يتثاءب لكنه منع نفسه خشية التبذير.
هذا ما دفع المتفيقه أن يكمل كلامه منتشيًا:
_ نعم! إنه الغراب الذي علّم أبانا قابيل القاتل الذي قال” أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب”_ وأشار إلى صاحب العمود_ حتى وصل إلى “فأصبح من النادمين” وأشار إلى الخطيب.
وتابع كلامه قائلًا: لهذا حقّ للسيد المتثائب أن يعوي كالكلب_ أقصد كالذئب هذا والله أعلم!
ثمّ انفضّ الجمعُ وتركوا الواعظ الذي مات وسط الأسبوع فلم يسعفه القدر أن يخطب ثانيةً. وحضر مكانه في الجمعة التالية خطيبٌ أخر، كان صاحب العمود يعوي أقصد يتثاءب مزهوًا دون حرجٍ ودون تعليقٍ.
……………………………….
التعليقات مغلقة.