قراءة نقدية انطباعية لقصة سفر الرجوع للأديب إبراهيم معوض بقلم عاشور زكي
أولًا:النص القصصي: سِفر الرجوع
صار المكان فسيحا، ولكن البرودة تتخلله من كل جانب، وكأنما تصعد وتهبط مع أنفاسي ودقات قلبي، يعلو بالخارج صفير الرياح مختلطا بنباح كلاب مستمر، زادت سيمفونية هذه الليلة عن كل الليالي السابقة.
قالوا لنا قديما: أن لكل فراغ ما يملأه، ولكن كيف؟ والفراغ يزداد في الداخل والخارج بعدما خلا البيت حتى مني.
جلس أمامي في هيئة أعرفها نفس الجلباب الكستور المقلم الذي كنت أرتديه حينما كنت طفلا، انتظرت حتى يتكلم كي أعرفه من يكون، هل هو ولدي أم احد احفادي؟ ولكنه لم يفعل بل ظل صامتاً يتأمل وجهي وكأنه يقارن بين تقاطيعي المجعدة وبين ما يحمل على وجهه من براءة وإشراق.
في نفس المكان وعلى نفس الهيئة كنت أجلس أمام أبي … اتذكر جيدا حينما كان يُخرج جعبته الجلدية، ويمنحني بعضا من قروشه اللامعة، كما أتذكر حينما قص علي كيف أجبره جدي أن يشتري مقابض النحاس بديلا عن مقابض الحديد ليزين بها الباب والشرفة، وكيف أنه فتح جعبته وأخرج ما فيها من قروش وأعطاها لأبيه دون أن يناقش ودون أن يقتنع.
سألته ذات مساء: كيف مات جدي؟
قال: لم يمت بل نام على هذه الأريكة ورأيت روحه تخرج من هذه النافذة تحمل بياض الثلج وخفة النسيم، طارت ثم طارت وما استقرت إلا بعدما تعلقت بآخر فرع من شجرة التوت. ظللت أتابعها وأتحدث إليها كل مساء حتى اختفت في ليلة باردة.
ضحكت وصفقت بكفي؛ لأنهم قالوا لنا في المدرسة أن الأرواح لا ترى.
مالي الآن لا أضحك ساخرا وانا اجلس نفس الجلسة أشاهد كرات الثلج فوق أعناق صف الاشجار المحيط بالبيت، كانت أمي تخاف من منظرها وكم طلبت من أبي أن يقطعها وكلما حاول أن يقنعها أنها مشهد بديع وخصوصاً من الشرفة البحرية.
تقول له : كأنهم طابور حرامية جايين يسرقوا مني الولاد.
_ الى متى ستبقى صامتاً؟
صرخت فيه بقسوة فلم يبدي تأثرا حتى تبدد صوتي، ابتسامته فقط هي التي تذبل والأقلام الزرقاء في جلبابه تبهت.
أعدت بصري إلى مقابض النحاس فوجدتها قد صدأت هي الأخرى، فلم أفق إلا وأنا أعتصر منكبيه بقوة وهو يضحك ويشهق ثم تجمد وسقط بين ذراعي وخرجت من فمه كرة ثلجية بخفة القطن وصارت تعلو كي تخترق الشرفة، أرسلت يدي خلفها فلم تدركها، تمددت بجواره واستسلمت لطابور اللصوص.
====
إبراهيم معوض
ثانيًا:قراءتي في قصة سِفر الرجوع للأديب القاص إبراهيم معوض بقلم: عاشور زكي وهبة
العنوان: سِفر الرجوع..
معلوم لدينا سفر الخروج أحد أسفار اليهودية.. يحكي قصة خروج العبرانيين من مصر.
أما سفر الرجوع يحكي قصة رجوع الأرواح إلى بارئها.. فمهما طال العمر، وكنا صغارًا أو كبارًا نقول دومًا:” إنّا لله وإنّا إليه راجعون”.
المكان والزمان: أحد البيوت ومحيطه من أشجار التوت التي تتعلق على فروعها الأرواح النقية كبياض الثلج وخفة النسيم كطابور لصوص تسرق الأرواح.
القصة يرويها البطل بصيغة المتكلم إذن فالراوي هو الذي وقعت معه القصة وعايش أحداثها عبر الأجيال والعصور.. فهي قصة الخلق منذ العصر الحجري في بناء البيت أو العصر الحديدي ويليه النحاسي في هيئة مقابض باب الرجوع…
أشجار التوت: التي سترت آدم في جنته بعد الخطيئة وأكل من الشجرة..هي نفسها التي تحمل أرواحنا أطفالًا ورجالًا وشيوخًا في سفر رجوع متواصل تخشاه الأم.. رمز الحياة والخصوبة. ربمايرمز بالأم الوطن الذي يحملنا في أحشائه ويخشى أن تغادرنا أرواحنا ونصبح ضمن طابور اللصوص الذي يسلب الأرواح..
_ كأنهم طابور حرامية جايين يسرقوا مني الولاد.
وإلى الوقت الذي تجف فيه الصحف والأسفار في سفر الرجوع ورفعت الأقلام الزرقاء وبهتت ألوانها.. يبدأ يفر الرجوع للأرواح إلى الخالق.. لتبدأ الأرواح في الخشوع بأبصارها إلى رب العالمين.
قصة زمانها متواصل منذ الأزل إلا أن يرث الله الأرض ومن عليها.
تحياتي لأستاذنا الأديب إبراهيم معوض.. وأرجو أن أكون قد وُفّقت في القراءة.
في أمان الله.
عاشور زكي وهبة
الأحد 25/7/2021
التعليقات مغلقة.