“الحاوي” بقلم محمد كمال سالم
كَسَرَ رتابة الحي القابع وسط المدينة، الذي يرضخ تحت وطأة الكفاح، من أجل لقمة العيش التي عزّت، واستعصت على أهله.
قرشان زهيدان يمثلان لي ثروة طائلة. قلما يصلان ليدي، إلا في أيام يروج فيها عمل أبي.
خالفتُ تحذير أمي ألا أنزل الشارع بلباس النوم.
كانت عصواه العاملتان بسرعة فوق نقرزانه كوساوس شيطان، يعبث في وجدان أطفال الحي من أقراني، دعوة لمتعة خاطفة ولهو زهيد.
التف أطفال الشارع حوله، النساء في الشرفات، الرجال يرمقونه في غير اكتراث، كطائف بسوق لا يجد مبتغاه.
يشعل شعلته السحرية، يطلب من العيال أن يصفقوااا
يلتهم النار، من جرابه تطل الثعابين، يداعبها كثعلب، يفخخ لضحيته، قردٌ صغير يصافح الأطفال، ويتنطط فوق كتفيه ويحاكيه.
نقرزانه وألعابه تفعل بعقلي الأفاعيل، وتحفِّز طاقة أبحث عنها في نفسي، لا أدري كنهها، أستدعى الحاوي قرشيّ أجرة له، وقد التصقا بكفي بفعل عرقي الحريص عليهما، ألقيت إليه بأحدهما.
يُلَملم ألعابه ،ويستدعي شياطينه، سيغادرنا إلى شارع قريب.
أمسكت بيد صغيرتي وصاحبتي بنت الجيران، كنت أُحب جدائلها، خصلات شعرها الناعم وأنفها الدقيق.
سرنا وراءه، طلبا لمزيد من الفرجة.
يداه السريعتان فوق نقرزانه، صوتُه الجَهْوريُّ الأجش المختلط برماد ناره، وتراب الشوارع، جمع شعبًا من الأطفال،يمشون خلفه، فبدوا وكأنهم يلبّون دعوة لوليمةٍ مزعومة في بيت الوالي الذي كان هنا منذ مئة عام.
في الحي المجاور، جحظت عينا الحاوي، لما رأى الأراجوز ينشر صخبه على الرصيف هناك، يجتذب حفنة من أطفال الحارة، منينا النفس، نحن الجماهير بمبارزة حامية الوطيس، يكسبها من يمتلك ناصية الشارع والنفوذ بين الناس، خاب أملنا سريعا لما وجدنا الأراجوز يركع ببدنه النحيل للحاوي يحييه بصوت صادر من مزمار، ويصفق بيديه الصغيرتين، المصنوعتين من ممحاة.
الحاوي يشتعل نشاطه، مهارته تزيد كلما سمع وقع القروش على أسفلت الشارع المخرم.
الشوارع تضيق، والوجوه تتغير، أزقة مجهولة و(حواري) مهملة، والناس تدلُّ خرقهم البالية التي يرتدونها على حالهم.
ماشبع هو من جمع النقود، وما شبع نهمي من ألعابه السحرية، ومحاولة اكتشاف سرها.
قاربت الشمس أن تغيب، ومادت الأرض واستطالت تحت قدميَّ الصغيرتين المتعبتين، لملم ثعابينه وقذف بالقرد فوق كتفه.وقد انتوى الرحيل.
نظرت إلي بيجامتي وقد اتسخت، فدب الروع في نفسي من حال أمي حين تراني، أتلفت أبحث عن رفيقتي بنت الجيران، ارتجّ كل كياني حين افتقدتها من جواري.، غريبة عني كل الوجوه، كلهم ينصرفون، وأنا وحدي حائر ضللت الطريق.
تبعت الحاوي، أمسكته من طرف ثوبه المهترئ، ناولته قرشي الثاني وقلت:
عمي أنا عايز أروّح البيت.
التعليقات مغلقة.