الضياع بين الماضي والراهن …قراءة نقدية للأديبة والناقدة الأستاذة كنانة عيسى لقصة ” الحاوي”للأستاذ محمد كمال سالم
الضياع بين الماضي والراهن …قراءة نقدية للأديبة والناقدة الأستاذة كنانة عيسى لقصة ” الحاوي”للأستاذ محمد كمال سالم
الضياع… بين الماضي والراهن قراءة نقدية بقلم كنانة عيسى
حين يصبح الموروث….. عبورا لروح المكان و لكينونة النفس ،وإسقاطًا قصديًا سياسيا لطغيان الإعلام كقوة كاسرة مهيمنة من كاتب اهتم بالفلكلور الشعبي والتاريخي فاستغرق بسرده مشهدً متنقلًا بعيني طفل في فترة زمنيةمجهولة لكنها محددة، ليبوح بدلالات متشابكة، عن الصراع الخفي الذي يحرك العامة، ويستقطب الشعب ويقوده من زقاق لحارة ومن عبث لتشظي ومن وهم إلى تغييب عن الحقيقة، بخلق اللهاث خلف القشور في صراع وهمي غرضه خلق وعي بديل، شعب سطحي مسير يقاد في جنون إعلامي مبتذل هجين بين (الحاوي) و بين (الأراجوز). أقطاب متنافرة تتنافس على استقطاب جيل بأكمله،
وكما ورد في النص:
صوتُه الجَهْوريُّ الأجش المختلط برماد ناره، وتراب الشوارع، جمع شعبًا من الأطفال،يمشون خلفه، فبدوا وكأنهم يلبّون دعوة لوليمةٍ مزعومة في بيت الوالي الذي كان هنا منذ مئة عام
استخدم الكاتب الإطار السردي المتكامل،بلغة سلسة متمكنةوائمت السارد الطفل، و أعطت انسيابًا هائل المرونة للمتن، حيث نتابع مشهدية حية ومعبرة تنقلنا إلى ما خلف لغة الرمز المبطنة، حيث منذ مئة عام تستخدم (البروباغندا) كأداة تخدم الهيمنة السياسية بالوكالة عن شعب مشوش وضائع بأكمله. وهل سياسة الإعلام عبر التاريخ الذي سيفقد مصداقيته،إلا تكرار لرغبات السلطة وأهوائها؟ وما زال التاريخ يجتر نفسه… وكما ورد في النص:
الشوارع تضيق، والوجوه تتغير، أزقة مجهولة و(حواري) مهملة، والناس تدلُّ خرقهم البالية التي يرتدونها على حالهم.
يذكرنا النص بالواقعة التاريخية المشؤومة لأطفال قرية هاملن الألمانية في القرن الثالث عشر الميلادي الذين اختفوا بعد لحاقهم بعازف المزمار والذي قادهم إلى مصير مجهول و الذي استلهمت منه قصة (عازف المزمار)) (pied piper of Hamlen) الخرافية وكل اللغط والنظريات التي حيكت حولها،من نظرية الحملات الصليبية ورمزية مرض الطاعون الذي قتل زهاء مئتي مليون من سكان العالم آنذاك، و المجاعة الكبرى ضربت أوروبا في عام ١٣١٧ حتى لم يجد الملوك ما يأكلوه.
الجوع هنا جوع البحث عن الحقيقة، جوع الفكر الذي
يستغله الساسة للتحكم بالبسطاء وشحنه عقولهم بالأفكار المقولبة وتسخيرهم لأغراض تخدم مصالحهم وأهوائهم
والحاوي أو الأراجوز الذي يجتذب الأطفال بعروضه السحرية، وبعروضه الغريبة و بموسيقاه التي ستقود الأطفال البريئين نحو قدر مجهول غامض كما حل في عازف المزمار الذي اختطف أطفالًا بريئين وانتزعهم من واقعهم وحياتهم للأبد
وكما ورد في النص
ماشبع هو من جمع النقود، وما شبع نهمي من ألعابه السحرية، ومحاولة اكتشاف سرها
لعل ما يعيب النص سرديا هو وجود الطفلة الضبابي، واختفاؤها أيضًا من سياق الحدث، ولعل الكاتب اراد بها رمز ًا خالصًا لاختفاء براءة جيل يواجه أكبر تحدياته.
وكما ورد في النص
غريبة عني كل الوجوه، كلهم ينصرفون، وأنا وحدي حائر ضللت الطريق
يستجدي السارد الطفل، بأسلوبه البريء الناصع، العودة لبيته، الطفل هو الرمز لواقع جيل يعيش الفوضى الإعلامية الرخيصة والبعيدة عن المنظومة الأخلاقية والتهويل والتغطية المسيّسة للحقائق، حيث الضياع هو كل ما يجده في راهننا الموبوء بسيطرة الإعلام المشبوه والتافه.
دام الإبداع
قصة “ألحاوي” للأديب محمد كمال سالم
كَسَرَ رتابة الحي القابع وسط المدينة، الذي يرزحُ تحت وطأة الكفاح، من أجل لقمة العيش التي عزّت، واستعصت على أهله.
قرشان زهيدان يمثلان لي ثروة طائلة. قلما يصلان ليدي، إلا في أيام يروج فيها عمل أبي.
خالفتُ تحذير أمي ألا أنزل الشارع بلباس النوم.
كانت عصواه العاملتان بسرعة فوق نقرزانه كوساوس شيطان، يعبث في وجدان أطفال الحي من أقراني، دعوة لمتعة خاطفة ولهو زهيد.
التف أطفال الشارع حوله، النساء في الشرفات، الرجال يرمقونه في غير اكتراث، كطائف بسوق لا يجد مبتغاه.
يشعل شعلته السحرية، يطلب من العيال أن يصفقوااا
يلتهم النار، من جرابه تطل الثعابين، يداعبها كثعلب، يفخخ لضحيته، قردٌ صغير يصافح الأطفال، ويتنطط فوق كتفيه ويحاكيه.
نقرزانه وألعابه تفعل بعقلي الأفاعيل، وتحفِّز طاقة أبحث عنها في نفسي، لا أدري كنهها، أستدعى الحاوي قرشيّ أجرة له، وقد التصقا بكفي بفعل عرقي الحريص عليهما، ألقيت إليه بأحدهما.
يُلَملم ألعابه ،ويستدعي شياطينه، سيغادرنا إلى شارع قريب.
أمسكت بيد صغيرتي وصاحبتي بنت الجيران، كنت أُحب جدائلها، خصلات شعرها الناعم وأنفها الدقيق.
سرنا وراءه، طلبا لمزيد من الفرجة.
يداه السريعتان فوق نقرزانه، صوتُه الجَهْوريُّ الأجش المختلط برماد ناره، وتراب الشوارع، جمع شعبًا من الأطفال،يمشون خلفه، فبدوا وكأنهم يلبّون دعوة لوليمةٍ مزعومة في بيت الوالي الذي كان هنا منذ مئة عام.
في الحي المجاور، جحظت عينا الحاوي، لما رأى الأراجوز ينشر صخبه على الرصيف هناك، يجتذب حفنة من أطفال الحارة، منينا النفس، نحن الجماهير بمبارزة حامية الوطيس، يكسبها من يمتلك ناصية الشارع والنفوذ بين الناس، خاب أملنا سريعا لما وجدنا الأراجوز يركع ببدنه النحيل للحاوي يحييه بصوت صادر من مزمار، ويصفق بيديه الصغيرتين، المصنوعتين من ممحاة.
الحاوي يشتعل نشاطه، مهارته تزيد كلما سمع وقع القروش على أسفلت الشارع المخرم.
الشوارع تضيق، والوجوه تتغير، أزقة مجهولة و(حواري) مهملة، والناس تدلُّ خرقهم البالية التي يرتدونها على حالهم.
ماشبع هو من جمع النقود، وما شبع نهمي من ألعابه السحرية، ومحاولة اكتشاف سرها.
قاربت الشمس أن تغيب، ومادت الأرض واستطالت تحت قدميَّ الصغيرتين المتعبتين، لملم ثعابينه وقذف بالقرد فوق كتفه.وقد انتوى الرحيل.
نظرت إلي بيجامتي وقد اتسخت، فدب الروع في نفسي من حال أمي حين تراني، أتلفت أبحث عن رفيقتي بنت الجيران، ارتجّ كل كياني حين افتقدتها من جواري.، غريبة عني كل الوجوه، كلهم ينصرفون، وأنا وحدي حائر ضللت الطريق.
تبعت الحاوي، أمسكته من طرف ثوبه المهترئ، ناولته قرشي الثاني وقلت:
عمي أنا عايز أروّح البيت.
التعليقات مغلقة.