إعادة قراءة التاريخ … تأليف. أ.د.قاسم عبده قاسم …
تقديم/ حاتم السيد مصيلحي
إعادة قــــــــراءة التاريخ
تأليف: أ. د. قاسم عبده قاسم ” رحمه الله “
ط. كتاب العربي، العدد 78،أكتوبر 2009.
عرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس التاريخ، كما يظنه كثيرون مجرد تدوين لأحداث تمت، أو وقائع مضت، فالتدوين ماهو إلا خطوة أولى مبدئية تتمثل في نقل المحفوظ ـ الشفهي غالبا ـ إلى المكتوب ليستقر في شكل وثائق دفعا للنسيان، تختلف عن ذلك عملية التأليف التاريخي، فهذه مرحلة تالية أرقى من مجرد التدوين، وفيها تتم عملية إعادة قــــــــراءة وإعادة فهم للتاريخ المدون، وهذه المرحلة الأخيرة على درجة عالية من الخطورة والأهمية لكل حضارة بشرية، ومن مفارقات علم التاريخ أن درجة تقدمه ونضجه إنما تعبر عن درجة نضج الحاضر أكثر مما تعبر عن درجة عظمة الماضي.
فثمة شعوب كثيرة ذات تواريخ عريقة وعظيمة تعجز عن فهم تواريخها وعن درسها، فيتجلى فشلها أشد ما يتجلى في عجزها عن بلورة مشاريع حضارية حقيقية لحاضرها ومستقبلها، كأنما يثقل ماضيها العريق بعظمته على حاضرها المتواضع فيلغيه ويزيده تواضعا.
إن عالمنا المعاصر يشهد علوا للأمم التي استطاعت أن تعيد فهم تاريخها بشكل جديد، بينما تتحجر الأمم التي تفشل في فهم صيرورة تاريخها، نحن بحاجة ماسة لأن ننتقل من تقديس التاريخ بصفته قدرا محتوما إلى إعادة فهم التاريخ بصفته فاعلية حققها أسلافنا وتفتح بدل أن تغلق علينا نوافذ جديدة لإتيان فاعليات جديدة مجاوزة وليست مطابقة لما سلف.
والأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم هو أحد المؤرخين الذي لا نجد لديه مبالغات صادمة، فالتجديد الذي يمارسه ينحصر في المنهج دون أن يطال الآراء، وفي هذا الكتاب لن نجد أحداثا ووقائع، بل سنجد وجهات نظر وتصورات، كعملية إنتاج لممارسة ثقافية تقوم على تصورات وافتراضات تفصح عن نفسها بدلا من أن تختبيء عن عيون القراء وأذهانهم كأنما هي فيروسات تشل قدراتهم النقدية، فتقعدهم عن الفهم وتلزمهم الحفظ، وتصيبهم عدوى الاجترار.
قراءة التاريخ:
يرى د. قاسم أن التاريخ مركب ومتغير ومحير تماما مثل الناس الذين يسجل حياتهم وأفعالهم، فالتاريخ مثل الفن والفلسفة والأدب، طريقة للنظر إلى التجربة الإنسانية ـ سواء أكانت النظرة إلى الجماعة وحياتها التي تشكل مجمل التاريخ، أم إلى الأفراد الذين يشكلون هذا التاريخ.
فالتاريخ بوصفه علما ونظاما دراسيا يتناول الإنسان في حياته الاجتماعية عبر العصور، ويمثل الإنسان والزمان الجناحين المتغيرين في الظاهرة التاريخية، وهو مايعني أن مادة التاريخ وموضوعه شديدا التركيب والتعقيد من ناحية، ودائما التغير من ناحية أخرى.. ويرجع ذلك كله إلى سبب تعدد المعاني والمدلولات التي تحملها ” التاريخ “
وأهمية قراءة التاريخ، أنها تساعد ـ أي المؤرخ ـ على وضع الحاضر في مكانه الصحيح، ذلك أن التاريخ يهتم بالأسباب، ومن ثم فإنه يوسع من مدى إدراكنا للعملية التاريخية، وإذا قرأناه بوعي نظرنا إلى المشكلات التي تعكر صفو الحاضر برؤية أكثر تنظيما.
ففي الزمن القديم، كانت الغاية من (قراءة التاريخ) تبرير الظواهر الاجتماعية والطبيعية التي لا يعرف الجيل «الحاضر» لها تفسيرا، ولهذا اتخذت القراءة سمة أسطورية لكي تبرر للناس حياتهم الحاضرة، وتبرير خضوعهم للنظام السياسي ومنظومة القيم والعادات والأخلاق السائدة في مجتمعهم.
ثم جاءت القراءة الدينية للماضي محاولة للتفسير، والتلقين الأخلاقي الديني من خلال استخدامه عمليا وتعليميا، وهو مايفسر لنا وجود المادة التاريخية في الكتب المقدسة للديانات الإنسانية الكبرى. فالقراءة اليهودية ركزت على فكرة الاختيار والأرض الموعودة، في حين ركزت القراءة المسيحية على فكرة الخلاص، أما القراءة الإسلامية فقد ركزت على أخوة بني الإنسان من ناحية، وفكرة خلافة الإنسان في الكون لإعماره من ناحية أخرى.
وهناك قراءات أخرى للتاريخ تجلت في (تاريخ التاريخ): منها القراءة العنصرية التي بررت التحركات الاستعمارية “رسالة الرجل الأبيض” وبررت دعاوى التفوق العرقي وقد ازدهرت في ظل النظم النازية والفاشية، ومنها القراءة الاشتراكية التي بررت القبضة الشيوعية على التجمعات التي خضعت لهذا النمط من الحكم…. وليس معنى هذا أن التاريخ بوقائعه وأحداثه يخضع لإعادة صياغة دائمة، لأن ذلك يعد نوعا من “تأليف التاريخ” وإنما يعني هذا أن كل عصر وكل جيل في المجتمع، يبحث عن العناصر التاريخية التي تفيد في توضيح الحاضر واستشراف آفاق المستقبل.
وواجب المؤرخ أن يصل الماضي بالحاضر بطريقة إبداعية خلاقة، ومن ثم فإن هدفه لا يمكن أن يكون مجرد عرض حقائق التجربة الإنسانية وفهمها فحسب، وإنما بعثها بإعطائها القيم والمثل الحافزة والبناءة المرتبطة بعصره.
القراءة الشعبية للتاريخ:
يتساءل د. قاسم، كيف نرى التاريخ من خلال عيون الناس، وكيف تتكون الرؤية الشعبية للتاريخ؟
ويرى أن الموروث الشعبي في أحد معانيه هو نمط من القراءة الشعبية للتاريخ، وهو يتعلق بأمور تدور حول المجتمع الإنساني، ثقافته ونظامه الأخلاقي والقيمي من ناحية، ورؤية المجتمع لذاته وللآخر من ناحية ثانية، كما أن الموروث الشعبي يتسم بالبساطة والتلقائية من ناحية ثالثة، وعادة ما يحمل ذلك الموروث الشعبي ( نواة تاريخية).
فالقراءة الشعبية للتاريخ تضيف بعدا ثالثا، يجسد الرؤية الوجدانية للتاريخ، ويضفي عليها طابعا نفسيا وروحيا يكسبه الصفة الكلية الشاملة كما أنه إعادة تفسير نفس الوقائع والأحداث التاريخية لصالح الجماعة، والسبب في ذلك أن المؤرخين في العصور القديمة، وفي العصور الحديثة أحيانا، ينسبون الفعل التاريخي إلى شخص الحاكم الفرد، ويقرأون الأحداث التاريخية من منظور ينسب للحاكم كل فضل، ويحول الناس إلى قطيع من الأغنام أو الماشية التي يقودها هذا الحاكم، ولأن هذا غير حقيقي من ناحية، ولأنه ضد طبيعة الأمور من ناحية أخرى، فإن (القراءة الشعبية) تعيد إثبات دور الناس صناع التاريخ الحقيقيين في الحدث، كما أنها تبلور المنظور الذي ينسب إلى الجماهير كل فضل تاريخي.
التاريخ والآثار.. تكامل أم تفاضل؟!
إذا كان الإنسان يوصف أحيانا بأنه صانع التاريخ، فإنه أيضا نتاج لهذا التاريخ نفسه.
وقد ظهرت الآثار لتسد الفجوة المعرفية بين بداية الوجود الإنساني في الكون، وبداية التسجيل المكتوب لقصة هذا الوجود، حيث كتب مؤرخون كثيرون عن المباني الأثرية التي خلفها السابقون، وتنوعت مصادر المعرفة التاريخية فيما بعد وصارت أكثر ثراء، بفضل ماوفره علم الآثار من معلومات تاريخية.
ويرى د. قاسم أنه من غير المتصور أن الباحث في تاريخ مجتمع ما يمكن أن يعتمد على المصادر التاريخية المكتوبة وحدها لفهم هذا المجتمع، ويعلل ذلك بأن كتابات المؤرخين مجرد شهادات، أو رؤى جزئية تكشف عن جانب، ولكنها لا توضح الجوانب كلها، لذلك فإن الباحث في كتابات المؤرخين لابد أن يعمد إلى المقابلة والتدقيق والتحقيق في محاولة لإعادة صورة الماضي، فإذا ماارتبطت الآثار بالحاكم، كان فيها قدر كبير من الاصطناع المراوغ، والرغبة الكاذبة في إعطاء انطباعات تخالف الحقيقة، فكم من آثار عظيمة نسبت لحكام أذاقوا شعوبهم مرارة الحرمان والذل، وكرسوا كل الموارد العامة لذواتهم.
المأثور الشعبي هل يبقى؟
ويجيب المؤلف قائلا: إن المأثور الشعبي الذي يتولى إشباع الحاجات الثقافية والاجتماعية والنفسية للجماعة مرتبط بوجود الشعب نفسه، ومن ثم، فإن السؤال المطروح يبدو بلا شرعية علمية وبلا أسس أخلاقية، ويستطرد معلقا: إن ثورة النشر الإلكتروني لم يحرم الإنسان من متعة التفاعل الحميمي مع الكتاب، مثلما لم تؤد المطبعة إلى اختفاء الشفاهية على الرغم من تطوراتها الهائلة على مدى أكثر من خمسة قرون من الزمان. فالمأثور الشعبي ليس نوعا من النتاج الاجتماعي العبثي، وإنما هو نتاج له دور اجتماعي/ ثقافي مهم في حياة أي جماعة إنسانية وملازم لوجودها، ومن ثم فإن كل التطورات التكنولوجية والعلمية التي مرت على البشرية لم تستطع أن تمنع وجود المأثور الشعبي.
الوعي بالتاريخ.. الوعي بالذات:
عد د. قاسم التاريخ ممارسة ثقافية ذات خصوصية؛ لارتباطها بالجماعة الإنسانية، وعندما تنسى الجماعة الإنسانية ماضيها تصبح في أضعف حالاتها، وتنعدم ثقتها بنفسها ويغشاها شعور بالدونية تجاه الآخر، ويصبح سلوكها إزاءه سلوك المهزوم من دون معركة، أما الإنسان الذي يعرف نفسه، فإنه يتصرف تجاه الآخر على نحو من الثقة بالنفس التي تميز سلوك من يعرف والمعرفة هي السبيل إلى العمل.. ولأن ماضينا، أو جزءًا منه على الأقل، هو الذي يشكل حاضرنا، كما أن حاضرنا من ناحية أخرى سوف يكون أساسا لمستقبلنا، فإن معرفة مكونات الماضي وأساسياته هي التي تقودنا إلى التصرف على نحو سليم في الحاضر، ووضع خطط التنمية للمستقبل.
وقد تحول الوعي التاريخي العربي جزئيا، من مفهوم ( التاريخ العبء) إلى مفهوم (التاريخ الحافز) بيد أن هذا التحول لا يزال في أطواره الأولى، ولم يتسرب من الصفوة إلى عامة المثقفين، وبالتالي إلى عامة الناس في الوطن العربي.
ويرى أن نشر الوعي بالذات العربية المشتركة يمكن أن يؤدي في النهاية إلى الاعتماد المتبادل بين الشعوب العربية وإلى مزيد من التعاون الاقتصادي المتبادل، والتفاعل الثقافي الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى إحساس مشترك بالذات ويالتاريخ من ناحية، وبلورة القدرة العربية من ناحية أخرى.
التاريخ والرواية.. تفاضل أم تكامل؟
يعقد المؤلف موازنة بين الرواية والتاريخ؛ ليبين أوجه الاتفاق والاختلاف بينهما، فيرى أن التاريخ، في شكل من أشكاله نوع من ” الرواية ” لأحداث وقعت في الماضي، ونمط من “
الحكاية ” عن الأشخاص والظواهر الاجتماعية بكل تجلياتها الثقافية والاقتصادية والسياسية..
والرواية، على نحو ما تسجيل ” تاريخي ” ـ سلبي أو إيجابي ـ لظواهر اجتماعية تحمل دلالات متنوعة يسجلها الروائي، أو يحتج عليها، أو يريد إصلاحها، أو يحملها رسالته وهدفه الذي يريد للقراء أن ينتبهوا له.
والإنسان صانع التاريخ وصنيعته، يتحرك في التاريخ في إطار زمني محدود وصارم، وفق شروط المكان، وهذا الثالوث ” الإنسان، والزمان، والمكان ” هو الذي يضفي على الظاهرة التاريخية ” تاريخيتها” أما الإنسان في الرواية، فهو صانع أحداثها حقا، ولكنه يحمل رسالة الروائي وهو يتحرك أيضا وفق شروط الزمان والمكان حتى وإن كانت الرواية تحفل بالكثير من الخيال الذي يحاول الروائي به أن يتحرر من شروط الزمان والمكان.
ومن الناحية التطبيقية نجد أن المؤرخين ظلوا زمنا طويلا يتعاملون مع التاريخ على أنه فرع من فروع الأدب، ولهذا حفلت كتب التاريخ القديمة بأمثلة التداخل بين الأدب والتاريخ، كما في كتب ابن إياس، والجبرتي.
فالأصل أن مادة كل منهما واحدة، وهي الإنسان في سياقه الاجتماعي، وأسلوب التناول والعرض متشابه ـ وليس متماثلا ـ من حيث إنه يقوم على السرد والحكاية.
فالعلاقة بين الرواية والتاريخ تكاملية غير متباعدة.
تاريخنا.. هل من الضروري إعادة كتابته؟
ويجري المؤلف تصحيحا للسؤال المطروح على أن يكون: هل هناك ضرورة لإعادة قراءة تاريخنا؟ ثم يسترسل في عدد من الأسئلة مؤداها، أن التاريخ يحدث مرة واحدة، وتتعدد المرات التي تتم فيها قراءته أو تفسيره مادامت الجماعة الإنسانية بحاجة إلى تجديد وعيها بتاريخها، أي وعيها بذاتها.
وإعادة قراءة التاريخ ليست تزويرا للتاريخ بأي حال من الأحوال، وإنما هي عملية تأتي في سياق الوظيفة الثقافية الاجتماعية للتاريخ باعتباره ممارسة فكرية في خدمة الحاضر، وبالتالي فإن عملية إعادة قراءة التاريخ تهدف إلى البحث عن العناصر التي ينبغي تسليط الضوء عليها لخدمة الحاضر واستشراف آفاق المستقبل، ومن ثم تجعل من المعرفة التاريخية نوعا من ” التاريخ الحافز ” الذي ينشط الفعل لدى الجماعة الإنسانية.
ويوجه إلى أننا لسنا في حاجة لقراءة تبريرية، أو دفاعية للتاريخ الإسلامي أو تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، كما أننا لسنا بحاجة إلى قراءة بعيون وردية تجرد التاريخ الإسلامي من طابعه البشري، فقد كان المسلمون الأوائل بشرا مثل سائر البشر، ولكنهم كانوا أصحاب مرجعية تمثل قوام حضارتهم، وعليها مدار حياتهم.. ويتمثل خطر تلك القراءة التبريرية في تصورها أن الحضارة الإسلامية أحادية الجانب، وهو أمر لا يمكن أن يكون صحيحا، فقد كانت متعددة الجوانب، حققت الكثير من الإنجازات، وحفلت بالعديد من السلبيات شأن كل حضارات البشر، ولكنها كانت حضارة إنسانية الطابع، فتحت ذراعيها لكل الأجناس والديانات، فأفادت منهم، وأفادتهم، وربما يكون هذا السبب في أن هذه الحضارة هي الأطول عمرا بين حضارات البشر، والأوسع في مداها الجغرافي.
ثم طوف بنا المؤلف حول فكرة (تاريخنا مع الآخر) في ظل هيمنة الحضارة الإسلامية على الغرب وتأثيرها، وأبواق الدعاية الغربية المعادية لتلك الحضارة ، ومحاولة اغتصاب أراضيها،ونهب خيراتها من لدن الحروب الصليبية، ومرورا بالحركة الصهيونية ، وانتهاء بالمخططات العصرية متمثلة فكرة صراع الحضارات، وصدام الحضارات، وكلها تهدف إلى تحقيق أطماعهم في المنطقة العربية تحت دعاوى مزيفة مغلفة بأطر دينية أو حضارية.
وبعد فإن هذا الكتاب يحمل بين صفحاته قراءة واعية للتاريخ، لاغنى عنها للمثقف العربي.
التعليقات مغلقة.