ولدت ثانية .. قصة بقلم عبد العظيم بن خجو
تم تقسيمنا إلى أربع وحدات، حيث ستقوم كل وحدة بالتوجه إلى نقطة حراسة مختلفة، من الطبيعي والمتوقع أن أكون أنا قائد وحدتي المكونة من عشر جنود فأنا أكثرهم تفانيا واخلاصا لعملي وهذا كان واضحا وضوح الشمس، لكن ابن اللعينة اختار جمال عوضا عني، الشخص الذي مذ دخلت الجيش وهو لا يمل في النظر كأنني سرقت حبيبته أو ما شابه.. لم أعط الأمر أهمية فمن عادتي أنني أتناسى وأكمل للخطوة التالية، ولم أكن أعلم أن الخطوة النالية ستكون مأساوية..صبيحة يوم الأحد الخامس والعشرون من أغسطس، هم جمال يوقظنا قبل الفجر بما يقارب الساعة، وأخبرنا أنه هجوم مباغث من العدو من الجهة الشمالية، وأن الوحدة الأولى لقت حتفها والثانية تحاول المقاومة، ونحن سندعمهم بينما ستقوم الرابعة بالانقسام، نصف يبقى مكانه ونصف يحل مكاننا.. ارتدينا ملابسنا وأخذنا السلاح متوجهين إلى ميدان الموت، والذي سيكون بالنسبة لي ميدان حياة جديدة..عند وصولنا اتفقت مع صديق عمري سعد الذي كنت أحسبه بمثابة أخي أننا لن نفترق، وإن مات أحدنا يموت الآخر بجانب جثته وقطعنا العهد على ذلك.. عندما اشتبكنا بالرصاص مع العدو الذي كان يفوقنا بأضعاف مضاعفة، رأيت جمال والكابتان الأعلى درجة منا الذي قام بتقسيم الوحدات، يتوجهان نحو قواد العدو ويصافحانهم، فهمت السيناريو جيدا، لقد باعنا الخائنان، وكانا يعلمان أن العدو أقوى منا بكثير ورغم ذلك أحضرانا إلى الموت.. الرصاصة الأولى كانت من نصيب كتفي الأيسر، والثانية كانت من نصيب فخذي الأيمن، طلبت من سعد مدي بالضمادات وإبرة مورفين، لكنني لم أجده، وبعد برهة رأيته فناديته: أريد مورفين.. ابتسم ابتسامة ذئب اقترب من الاطاحة بفريسته، وقال بلهجة حقد وكراهية: فلتمت، بئسا لك.بقدر ما كان ألم الرصاصة كبيرا كان ألم آخر في قلبي أكبر بكثير، أخ العمر كان مزيفا، من كنت أعطيه طعامي وملابسي وحبي واهتمامي ووقتي وكل ما أقدر عليه، كان مزيفا، وها هو يشتفي في لحظة احتضاري.. كنت محطما من جميع الجوانب، بل كنت أنتظر من جمال أن يراني ليقتلني، فهذا بالنسبة لي أمسى شيئا عاديا وطبيعيا أتوقعه..انبطحت أرضا وتظاهرت أنني ميت، وكان كل حلمي أن لا يقصف رأسي أحد، فمن عادات العدو اللعين أنهم عندما ننسحب يعودون للأموات في ميدان المعركة ويقصفون ادمغتهم كي يتأكدو من موتهم.. بعد فرار سعد ومروان فهما الوحيدان اللذان نجيا من هذه المذبحة الليلية السوداء، عاد عناصر العدو، لكن وبمشيئة الله لم يقصفوا أحدا، عندما انصرف العدو، جلست أضمد جروحي بضمادات مرمية وإبر مورفين أخذتها من جيب أحد القتلى وكل ما يدور في رأسي عبارة عن أسئلة كثيرة: لما يا سعد؟ ولما يا جمال؟ ولما لم يقصفو رؤوس الجثث كعاداتهم؟.. فجأة سمعت صوتا قادما، وتظاهرت أنني ميت من جديد، لكن صوت داخلي يقول أنها نهايتي، ظننت أن الأعداء عائدون لينهوا مهمتهم.. لكن ما حدث أنها كانت ولادة جديدة لي بنظرة أخرى وضمير آخر تجاه الحياة، ذاك الشخص كان هو جمال، وجثى على ركبتيه وقلبني، وأنا انتظر نهايتي، لكنه قال: ليتك حي يا صديقي، أنت الذي لم أكن أرجو لك هذا من بين كل هؤلاء.. ما فكرت فيه أنا هو تماما ما قد يفكر فيه أي أحد منكم في مثل هاته المواقف، أنه يقول ذلك لأفتح عيناي ثم يقتلني، لكنه وضع يداي على صدري وغطاني بمعطفه واستدار مغادرا، ففتحت عيناي وخاطبته وقد سلمت أمري لله: جمال، أنا حي..هنا جثى من جديد وعانقني، وقال أنه فعل هذا لسبب معين، وأنه لم يستطع اخباري لأنني كنت دائما برفقة سعد وأخبره كل أسراري.. فسألته: لكن ما السبب؟ لماذا غدرتم بنا؟أخرج سيجارة وقال: قبل تقسيم الوحدات علم الكابتن أن خمسة وعشرين من الجنود يسربون المعلومات، من بينهم صديقك سعد، فقسم الوحدات بحيث جعل عشرين من الكلاب في وحدتين والخمسة المتبقين في وحدتنا والوحدة الرابعة أرسلها بعيدا عن هذه الفوضى، وجعلني قائدا على وحدتنا لأنه يثق بي، أي أنني وأنت وثلاثة من الجنود أبرياء مع خمسة خونة.. فالكابتن تكلم مع قائده وطلب منه كتيبة مختصة تتظاهر أنها من الأعداء ونرسل الكلاب إلى الجحيم.. قاطعته: لكن بما أنكم تعرفون أنني بريء لماذا أطلقتم علي.. أجابني: ومن قال لك أننا من فعلنا؟ أجبته: ومن؟نظر إلي نظرة تحمل كل الإجابات ففهمته وقلت: سعد!!؟؟ضمد جروحي وحملني على كتفيه نحو حياة أخرى بضمير آخر، ضمير أنني لو رأيت سعد بعدها سأفجر رأسه دون لحظة تفكير.. نحو حياة بشخصية أخرى، بشخصية لا تحكم على نظرات الناس قبل معرفتهم.
التعليقات مغلقة.