تذكرة ترام بقلم د. ابراهيم مصري النهر
طالب بكلية الطب عند ذهابه إلى كليته وإيابه إلى المدينة الجامعية لا يرافق زملائه، وإن أُضطر إلى مرافقتهم يتهرب منهم بأي حجة واهية، وإن رأى أحدهم صدفة في الترام بعيدا يلتفت إلى الناحية الأخرى وكأنه لم يره، وإن كان قريبا منه استأذن بعذر ونزل في أول محطة.. أتعرف لماذا كان يفعل ذلك؟
لإنهم كانوا عندما يرافقهم في الذهاب والإياب في برد الشتاء القارص -مرتديا قميصه الوحيد- يسألونه: ألا تشعر بالبرد؟! لماذا لا تلبس معطفا؟! أنت إنسان غريب.. وهم يتضاحكون ويضربون كفا بكف.
وهو يجاريهم ضاحكا لكنه ضحكا بطعم البكاء، متحججا بأنه ليس بردانا..
لا يريد أن يركب معهم لأنه ليس معه جنيها ثمن تذكرة الترام، ويخشى أن يكشف المحصل خدعته ويهينه أمامهم، وعندما يسأله المحصل عن التذكرة يجيبه بكل ثقة: إشتراك. ماااادا يده إلى جيب بنطالونه الخلفي، واضعا معطفه الأبيض على كتفه حابكا الدور.. فيقول له المحصل: خلاص يا دكتور.
يضطر إلى ذلك غالبا في الذهاب إلى الكلية ليلحق بالمحاضرات أما في العودة فكانت غالبا على الأقدام.
يستعير من زملائه الكتب ويصور على قدر ما معه من نقود وينقل ما يستطيع ان ينقله منها بخط يده، ويا حبذا لو وجد من يعيره بعضا من الكتب ممن يسبقونه بعام أو عامين.
زملاؤه في المدينة الجامعية يقضون الليل في المذاكرة والسمر، ويقضي هو معظم لياليه محاولا أن يجمع بعض النقود عن طريق حقيبة علي كتفه بها خليط من؛ لعب الأطفال، والأقلام، والماديليات، والآلات الحاسبة، لبيعها للمارة في الشارع..أخذ هذه البضاعة من صديق له بكلية الحقوق على أن يسدد له أصل الثمن ويتقاسما الربح.. يجوبان شوارع المدينة من المرسي أبو العباس إلى المنشية، ومن محطة مصر إلى كرموز، سيرا على الأقدام، وهم يغنون: (ع الحلوة والمرة مش كنا متعاهدين…).
لم يؤنب يوما والده أو يُشعِره أنه قصر، لأنه يعلم جيدا أنه ما قصر، ولكنه بذل أقصى ما في وسعه لتعليمه وتعليم إخوته، وعندما يسأله والده عمّا ينقصه يتظاهر بأنه لا ينقصه شيئا، وأن كل شئ على ما يرام.
أنهى دراسته بالكلية وصار طبيبا ناجحا يشار إليه بالبنان.
والآن يرد ثمن تذكرة الترام للحكومة في مستشفياتها، مستشفيات الفقراء من الشعب، وما زادته التحديات إلا إصرارا وعزيمة..وشق طريقه وسط الصعاب.
التعليقات مغلقة.