لا تلوموه لقد ولدت بين يديه…
بقلم د.إيمان عفيفي
لم يكن دارسا للفنون أو يملك الموهبة ليصطف بين الهواة لكنه كان مولعا بحب الفن التشكيلي و اقتناء اللوحات الفنية باختلاف مدارس فنانيها،لم يترك مرسما دون أن يزوره و يحاول التعرف علي مرتاديه من المبدعين و الهواة ..حرص علي حضور معظم معارض اللوحات التشكيلية أينما و وقتما كانت ليقف أمام كل لوحة كالقارئ الشغوف متأملا تفاصيلها ، يرسم بمخيلته ما تحمله من قصص و أفكار و ما أن تمس إحداها شيئا في صدره لا يتردد في الشراء أيا كان ثمنها و قبل أن يصطحبها لمنزله كان يبحث عن مبدعها ليبدي إعجابه بروعة العمل، كانت تعتريه السعادة بشعور الفخر و الامتنان الذي يعلو وجوه الفنانين في تلك اللحظة و لكنه كان دائما يرى نظرة غريبة تتكرر في أعينهم جميعا لم يستطع أبدا تفسير معناها…
ما أن يدخل المنزل حتي تنهال عليه عبارات اللوم من والدته الحنون التي طالما أشفقت علي ولدها الوحيد من ضياع نقوده في أشياء …كما تراها…ليس لها قيمة ..”نفسي تدخل عليا بمفتاح عربية و الا عقد شقة عشان افرح بيك ،هتعمل إيه بكل الصور اللي مالية الأوضة “هكذا كانت تستقبله و هو مقبل عليها كالطفل الذي يقفز فرحا بلعبته الجديدة ، فيهرب إلي غرفة مكتبه التي تحولت لمخزن لوحات ثمينة متناثرة دون نظام …لقد كانت تنتهي علاقته بكل لوحة بانتهائه من تأملها و وضعها بين مثيلاتها في الركن الجميل كما يطلق عليه ….
هكذا كان جمع ثمار الفنانين ذوى الريشة المبدعة ركن أساسي في حياة هذا الشاب ، ذلك إلي جانب أمسية الخميس التي تعود أن يقضيها في بيت صديقه المقرب خليل ليتناولا سويا قطعة الكيك مع فنجان قهوة أم خليل ذي النكهة المميزة .
بعد إحدى هذه الأمسيات عاد إلي بيته بينما كانت أمه في سبات عميق ، توجه إلي ركنه الجميل واستلقي علي كرسيه الهزاز ..بعد لحظات وقعت عينيه علي لوحة لم يراها من قبل، قام و اقترب منها متعجبا من أين أتت هذه ؟! نظر إليها فإذا به يرى ملامح وجهه بوضوح حتي ظن أنها مرآة ،اقترب أكثر محدقا فلمس بها مشاعر دفينه مختلطة بلحظات حزن و فرح كانت قد مرت عليه ،وجدها مجسدة أمامه. حاول أن يمسك هذه اللوحة الغريبة علي المكان فوقع علي الأرض ليدرك أنه كان يحلم أثناء غفوة قصيرة.. استعاد توازنه بعد لحظات ثم التقط قلم رصاص و ورقة كبيرة من علي مكتبه و جلس يحاول الرسم فوجد خطوطا تنساب من بين أنامله تصور لوحة حلمه الخاطف.
مر وقت طويل و هو منهمكا بالرسم لم يشعر إلا و صوت والدته تنادي بحثا عنه في جنبات المنزل حتي دخلت عليه و قبل أن تبدأ بتوبيخه علي السهر بين هذه الصور الملونة….إذا بها تتوقف قائلة” جايبها منين الرسمة الحلوة دى…دى أحلي من الشخابيط اللي بتخلص مرتبك عليها ” لم تتوقع أن هذا الجمال من صنع يديه فلم تلحظ يوما تلك الموهبة عند ابنها بل كان الابن أكثر دهشة منها ….فكر الشاب أن يحول صورة الحلم التي مازالت في مخيلته إلي لوحة ملموسة و شجعته الأم أملا منها أن يكف عن شراء المزيد من الصور ..كما كانت تسميها…
استحوذت هذه الزهرة البرية المفاجئة علي وجدان الشاب ..سار علي قدميه بين المكتبات لشراء الأدوات اللازمة..رافقته صورة الحلم طوال وقته وفي كل مكان ..أثناء عمله، وسط الطرقات ،في أطباق طعامه ،طيلة الوقت ظل يضبط خطوطها و ألوانها في رأسه.. ضحي بساعات نومه و دقائق راحته لطبع ما يراه علي الأوراق ، حتي أمسية الخميس هجرها بجانب وليدته الجديدة.
شهران و أصبحت اللوحة في تمامها ،بدأ يتساءل هل من الممكن أن تخرج لوحته للنور وسط مثيلاتها في المعارض الفنية؟!..حتي اصطدم بإعلان عن حدث غير مسبوق….مزاد علي أفضل المجسمات و اللوحات الفنية للمبتدئين.. شعر أن هذه المسابقة نظمت خصيصا من أجله ،علي الفور تقدم للمشاركة و فازت لوحته للدخول في المزاد ،انتظر باشياق حالما كم ممكن أن يصل سعرها ،و ظلت الأم تدعو ليلا و نهارا أن تأتي هذه الثمرة بحصيلة ما أودعه في هذا الشغف دون جدوى ….
حان اليوم المنتظر ، جاء خليله الصدوق يطرق الباب ليصطحبه إلي المزاد بسيارته و أخبره أن قطعة الكيك و القهوة في انتظاره عند عودتهم.
وفي قاعة المزاد وضعت لوحته بين المعروضات و بدأ الحاضرون في المزايدة علي كل قطعة ليحظى صاحبها بأعلي ثمن…حينها انتابه شعور غريب ..خليط من الفرح و الخوف متبوعا بالقلق و بعض الحزن…تلاشت كل الأصوات تدريجيا من حوله ،بهتت صورة المكان و تصدرت لوحته الحبيبة مرآى عينيه…شعر بأنه سيفقد وليدته التي استشعر آلام مخاضها..شاهدها تحبو حتي اشتد عودها..عايش لحظات تعثرها و ثباتها،هو من صف خلاياها واحدة تلو الأخرى بأصابعه…الآن فقط أدرك ما وراء نظرة الفنانين التي احتار في تفسيرها ،فقد أحس بها في عينيه الدامعتين رأي لوحته تسكن مكان آخر كحال الكثير في ركنه الجميل.. لم يشعر إلا و صوت صاحبه يلتقطه من هذه الموجة العاتية التي عصفت بوجدانه قائلا ” دورك يا فنان ” بدأ الحاضرون المزايدة علي زهرته الثمينة ، ظل السعر يرتفع و فجأة قال لصاحبه لماذا لا تشارك معهم فسخر منه قائلا “ما عنديش غير قهوة أم خليل “.. .فإذا به يذهب إلي من يدير المزاد يهمس في أذنه ثم حمل لوحته هاربا بها من المكان…..لحقه صديقه مندهشا “إيه اللي حصل” أجابه ” اشتقت للقهوة و الكيك” ….ظن خليل أن صاحبه يمر بنوبة جنون الفن التي يتحاكون بها فقرر أن يتبعه في هدوء حتي يعود إلي رشده…..و في منزل خليل سبق الشاب إلي غرفة صديقه ، تخير مكانا مميزا و طلب منه المساعدة لتعليق اللوحة..ثم جلس يستعيد أنفاسه كمن كان يختنق و عاد للحياة و هو ينظر للوحته كأنها عروس متوجة . التفت لصاحبه قائلا و الآن أين ثمنها ؟! أين قهوتي و قطعة الكيك ؟! تسمر خليل مكانه دهشة … فأسرع الشاب يرد علي سؤال لم يسأل….لم أجد أصدق منك ليؤتمن عليها و يكفيني أن أقضي أمسية الخميس معك مؤتنسا بمولودتي…لا تتعجب ..نعم مولودتي…لقد ولدت بين يدي..
هذه القصة إهداء إلي من كان وراء إلهامي بكتابتها…إهداء لروح أبي الحبيب.
ماشاءالله جميله جدا ومعبر جدا وأسلوب بسيط وراقي بالتوفيق يارب ومن نجاح لنجاح