الأسطى فوزي قصة قصيرة بقلم الأستاذ أحمد فؤاد الهادى ، مصر
كان دكانه صغيرا ضيقا يسع بالكاد ماكينة الحياكة العتيقة وتلك الطاولة المتهالكة التى يفصل عليها عم فوزي القمصان بدقة واحتراف، والرفوف العتيقة بألوانها التي أفقدها الزمن أسماءها فلم يعد لأحد القدرة على تمييزها، تتناثر حوله على الجدران، وقد يرتطم بعضها برأسه عدة مرات دون أن يأبه بها، بل يستمر فيما يقوم به على منضدة التفصيل أو ماكينة الحياكة.
نظارته الطبية تدلى مستندة على أنفه المعقوف وقد عالج ذراعيها المكسورين ببعض من الخيط، كفنان فى مرسمه، لايلهيه شئ عما يبدعه بين يديه.
عشقت تلك القمصان التي كان يفصلها لي الأسطى فوزى وأزهو بارتدائها أينما حللت، ولكنه غاب عن دكانه فلم أره لشهور طويلة حتى لاح لى جالسا أمام دكانه المغلق على كرسى استعاره من المقهى المجاور، بدا وكأنه عائد من كهف، أو أنه كان كذلك من قبل والاعتياد هو ما جعلني لا أهتم بتفاصيل وجهه وجسده، أقبلت عليه متهللا، حاول الرجل القيام لاستقبالى ولكنه كان يتمايل يمينا مرة ويسارا مرات، وفى كل مرة يستند على أحد ذراعيه، فلما أدركت مجلسه أسرعت أساعده فانتصب واقفا، كان مهتزا مستندا على عصاه وشعره الأبيض قد أصبح جزائرا متناثرة على رأسه فى غير تهذيب ولا نظام، كدت ألمح دموعه خلف زجاج نظارته السميك، لقد حاول أن يبتسم فبكى فأبكانى، خارت قواه فهوى على كرسيه، نظر إلى فى حسرة وكأنه يعتذر لجلوسه بينما أنا أقف أمامه، ربت على كتفه محاولا أن أخفف عنه، انتابنى شعور قوى بأن الرجل ليس معتلا صحيا ولكنه سقط ضحية ضغوط عصبية استنزفت قواه، ورغم أنه لم يشك لى شيئا، بل قال فى ضعف وانكسار ظاهرين: “إنها سبعون عاما يابنى، الحمد لله على كل شئ”
أكثر من عشرين عاما مرت على كلمات الأسطى فوزى، ولكن صداها تردد اليوم في مسامعي، استيقظت الذكرى بصورتها كاملة التفاصيل، وكأن الرجل أمامى يعيدها كما كانت أول مرة.
ارتفع صوتى فى الشارع وأنا عائد من صلاة الجمعة سائرا على قدماي: “الحمد لله” فاليوم هو اليوم الأول من عامى السبعين، يالها من نعم لاتعد ولاتحصى رزقنى الله أياها، زاد إشفاقى على هذا المسكين، صحت مرة أخرى: “رحمة الله عليك ياأسطى فوزى”
أحمد فؤاد الهادى ،
التعليقات مغلقة.