” نَصٌّ وَ قِرَاءتَان ” بسيمياء
” الأولى ” ..!!
” ” اكتناه الأبعاد الدلالية .. وفك الحمولة الفكرية .. !! ” .. د.مهندس / إياد الصاوي .
النص بسيمياء
سقط النصيف حين مرّ طيف شاعرها وهمس ملتاعاً:
“بسيمياء، لا تتركيني للظلال.”
لكني لم أجرؤ على الاعتراف له بأن الملك النعمان يحتجزها في غرفتها الوثيرة، تتلوى من الألم.
حلم بامتلاك جسدها الذي فتن لبّه، لكن روحها بقيت هائمة وراء الطيف، وهو يتتبع خليط العبير المبثوث على كل الجدران، فقد اعتادت بسيمياء أن تخلط الطيب والعنبر، وتأمرني أن أمرغ به عتبات القصر وجدرانه حين يمر الطيف؛ ليكون العطر كينونةً تهبه منحة الوجود …
حين سقط النصيف طار من قلبها خوف الوشاة، وأطلقت في فضاء الروح عشق الجمال، بعد أن تناهبت سيوف مليكك جسد شاعرها الوسيم، وجعلته أشلاء منثورة على الدروب. فصار طيفا أسيراً في قصرها يبحث عن خلاص.
فأنشد أنت ماشئت من القصيد ، وسأغني أنا ما شاء الغناء، فجسدها الملكي الذي يسري فيه عطري المسموم الآن؛ ممهور بالسبي الأبدي لطيف لا يبرح ظله.
يا زياد …
حين سقط النصيف، أسقطك الهوى، غلبك حسنها، وطغت عليك هالة الوجد المهيب.
مليكك يتحرق لكلمات تبّرد لهيب قلبه المصلوب على خشبة حب مغدور، فماذا فعلت ماوية كما تسميها أنت، أو بسيمياء كما يحلو لملكك أن يدعوها، حين يضج به الشوق، ويفيض من جنبيه الشبق فيفحّ في أذنها فحيحاً معذباً باسمها القديم؟! تدير ظهرها لجموح رغبته وسطوة ملكه، بينما تصوغ كل صنوف غوايتها لشاعرها الشاب، تهيل عليه مطراً من فضة جسدها، خصرها موسيقى وخلخالها سرّ، ولسحرها خضع المفتون، فأوقدت عليه أتون الشغف.
أتظن الطيف يرى أو يحس؟!
هو حظك الملعون شاء أن تقع أسير فتنة عطرها، ونعومة أصابعها، حين التقطت طرف النصيف فعقدت فيه روحك حين عقدته وأصابت قلبك سهام اللحاظ…
فأي غواية حملتها لك ذرات الهواء التي تنبثق من طيبها
وأي جنون حملك لتكتب شعراً لم تسمع العرب مثله؟!
و أي شفق مدمّى بلون سماء الشوق يحملك لتطوف في حنايا قصرها ملتاعاً تلتقطك ظلال فتنتها؟!
وحين تصمت ألحاني وتستطيل حرقة صدري، فأصير انعكاس الظل في صورة إنسان لايملك إلا النحيب وبعض الغناء، تدعوني بصوتك المبحوح:
-” يا رؤبة إليّ ببعض ضوء من سراج يوقد في روحي الجمر حين أتمتم باسمها … نغّمي شعري وصوغيه لحناً نطق به مفتون مثلي. فطار في البلاد. “
أغني شعرك الممسوس بالعشق ، فيتماهى مع سحر مسامات صوتي الذي ماصدحت حنجرة بمثله.. فأي شغف يدفعني لأتتبع خطواتك على الدرب حين تسلكه على خطو عطرها. وأنا أتساءل:
من يلهث وراء من؟
تجيبني اللهفة، تحضرك موسوماً بذاك السحر المسبوك قصائد تنهلّ من صوتي، وتتحدر كسرب غزلان في صحراء رحلتك العطشى. أهيل على الكلمات وهجاً من تبر صوتي، فتنة تكتنفها الأسماع، وتجعلها وشماً في الروح لايخطئ العطر والصوت واللحن الفريد. ويبرز السؤال من جديد
أهو أنت؟!
ومن أين لي ان أعرف أنه ظل شاعرها العاشق وليس أنت؟!
يهمس الطيف المأسور منتحباً:
إليّ بصوت يكفن روحي وهي هائمة في شهقة من همس عطر أزلي السحر. فأطلقي صوتك يا رؤبة بالغناء، فظلي يحتضر، وروحي يحملها العبق إلى سر جسد ماوية المرصود، فأغنيه :
وهو يتمتم : أحرقني يا عشق ماوية ففيك تختزل كربتي.
أستذكر ساعة أسدلتُ الستارة، التي تفصل بين حجرتها الخلفية وبين بلاط الملك، ماوية منتشية بحضوره. ذاك الفتى الشاعر واسع العينين، جهوري الصوت،عذب الألفاظ .
حين خرج من البلاط، وقف عند الممر المعطر. خرجت هي من غرفتها فتلاقيا وهبّ العبير
سقط النصيف حينما مرّوا جميعاً، رفعت يدها تختبئ من عيون الناظرين، تتوارى وراءه خوفاً من اقتحام العيون لحرم الجمال الذي طوّبته باسم شاعرها المحبوب حين همس باسمها ، فبُهت، و على أعتاب سحرها طار صوابه وصوابك وصواب مليكك الأرقش، فمزق بسيف سلطانه جسد الفتى، وشرّدك أنت في البلاد.
-(كنت أظنها تقصدك يا زياد!)
هذا هو سريّ الملعون …
في تلك الليلة حين كنت تستعد لهروبك الأخير، دخلت بسيمياء غرفتها وهمست لي:
الملك سيكون ضيفي لهذه الليلة. قومي يارؤبة حضّريني.
قمتُ، غسلتُها بماء الورد ومشّطت فرعها بالزعفران… مسحت عن عينيها دموعها فهمست لي :
لا أقوى على ذلك يارؤبة …. لقد نزع روحي .
ضمختها بخليط المسك الذي يهيم النعمان بحبه…
ولا أدري أي يدٍ تلبست يدي فمزجته بسم زعاف.
أوقدت في المخدع شموعا معطرة بذات العطر …
وجلست أنتظر مليكك وفاتنته أن يتمرغا بسميّ المعطر …
لكن الملك ترك ماوية غارقة بالوجع، وخرج غاضباً من صدها الفجّ…. وتلك نجاة.
” ستبقى أنت الشاهد يا زياد فاشحذ شعرك.”
ولابأس أن اخترت الهرب إلى مجاهل الصحراء فتلك نجاة أيضاً.
أما العاشقان وحدهما من خانهما العطر.
وهأنا وحدي على جمر دموعي أشرب كأسي المسموم حتى الثمالة .
” المؤلف ……. “
القراءة الأولى :
لكل مصطلح خلفيته المعرفية التي يجدر بالباحث العودة إليها لاكتناه أبعاده الدلالية والتزود على ضوئها بما يساعد على فك حمولته الفكرية ليبوح بأكثر مما تحمله دلالة المصطلح الحرفية ..!!
” السيميائية ” أو ” السيمولوجيا ” أو ” السيميوطيقا ” الذي يعني علم العلامات ، أو علم الإشارة ، وهي نظرية للتمثيل العلامي في كل صورة ..!
وهي كمنهج نقدي تقوم على جملة من التداخلات الجذرية مع الحقل اللساني القائم على ثنائية “الدال و المدلول” .. والعلاقة بينهما وتأخذ تقسيما ثلاثيا عند بيرس ” الأيقونة ، المؤشر، الرمز ” ،
وباعتبار السيمياء علما يبحث في أنظمة العلامات ويشتغل على تفسير الدلالات المشحونة في الرموز بما فيها تلك التي تعكسها الخطابات الأدبية ، فقد اقتحمت عالم السرد والتأليف القصصي مستخلصة رموزه وعلاماته سابرة أغواره ، مستخرجة تأويلاته الممكنة وعليه يمكن النظر إلى هذا العمل وفق مستوى سطحي وآخر عميق ..!!
يتضمن السند رسالة موجهة في هيئة استحضار لشخصيات من التاريخ تترجم على الصعيد التيمي مجموعة علاقات تستدعي وصل الماضي بالحاضر لتنفيذ برنامج سردي يرسمه الراوي باتقان ..!
” لاتتركيني للظلال ” يؤسس في هذا الملفوظ فاعلا في مشروع سردي وضعه ك ” مرسل ” يطلب منه البقاء لكنه يصطدم بعجزه عن الاعتراف لملك يحتجز هذا الفاعل الذي لم يبق منه غير الطيف .. ليس هناك علامات تدل على المظهر الخارجي لهذا الفاعل غير أنه مغتصب الجسد ، شريد الروح ، مؤرّجا بالعطر ، يطارد طيفا ذهب ضحية الحب .. ” حين سقط النصيف طارمن قلبها خوف الوشاة ، وأطلقت في فضاء الروح عشق الجمال ، بعد أن تناهبت سيوف مليكك جسد شاعرها الوسيم .. فصار طيفا اسيرا في قصرها يبحث عن خلاص ” ..!
ولمقاربة هذا النص سيميائيا نقف على :
سيميائية العنوان ” بسيمياء “
علامة لغوية إجرائية تعلو النص ، تسمح بمقاربة النص واستقرائه وتفسير دلالته باعتباره نواة تثير القارئ وتدعوه للتأمل ، وترسم له أفق التوقع فهو مرآة عاكسة لمضمون النص ، وكلاهما مرتبط بالآخر..!
العنوان من المتعاليات النصية التي تسمح باختزال النص عبر علاقة توليدية تنهض بالتحفيز الدلالي وتحقق جملة من الوظائف المبئرة للموضوع ..!!
” بسيمياء ” عنوان مختزل ومكثف اختاره الكاتب ليحمل سلطة النص مفترضا نظرية خاصة يحيل إليها العنوان ، وهي النظرية السيميائية .. فلماذا اختار ” بسيمياء ” بالذات ..؟!
هل ينسج العنوان مع المضمون ..!؟
إنها إحالة لطيفة للحفر في بنية العنوان وفتح أبواب التأويل على مصاريعها .!!.
” ب ” حرف جرّ ينصرف من حيث الدلالة اللغوية إلى معاني أصلية ومعاني فرعية
أفاد معنى الاستعانة وكأن الكاتب تقصّد إشاقة المتلقي إلى معرفة المقصد الجمالي الذي يرمي إليه ، ولكنه لن يحقق ذلك دون جرّ المتلقي الذي تعمّد جرّه معه إلى اختياره للسيمياء حيث لغة الاختفاء والتواري والتلميح .!.
” سيمياء ” كلمة أعجمية الأصل مركبة تركيبا مزجيا ، يجعلها لا تستجيب للجر لأنها ممنوعة من الصرف ، مكونة من ” سيم ” و ” لوجيا ” أي ” علم العلامة ” اما دلالتها العربية فهي لا تنأى عن” السِّمة أو الوسمة أو الشامة أو العلامة ” فقيل : ” خيل مسومة ” وقال تعالى:
« سيماهم في وجوههم »
ولهذا صلة وثيقة بالنص الذي يتعذّر فهمه دون الارتكاز على فهم العلامات ، ..!!
أو باستعمال لغة القصور التي تقوم على لغة الصمت والعيون والإشارة .. لذا يختار لغة التكثيف القادرة على خلق عالم من الإثارة والإدهاش وبذلك يتخطى حدود الحس إلى مرونة ساحرة تشبع لذّة التأويل ..!!
قد يكون لهذا الاختيار جماليته المقصودة لإيصال رسالته من جهة المنهج السيميائي ، ..!!
لكنه في تقديري نوع من الإملاء على القارئ يقمع حرية اختيار المنهج الذي يراه مناسبا ..!!
ومهما يكن فإن العنوان في صلته بالنص يظهر الوشائج الوثيقة بينهما ..!!
فالسيمياء ترتبط لفظا بالسماء والسمو وانفلات الدلالة في آفاق التأويل غير المحدود ..!
وبالانزياح نحو شعرية العنوان نجد” السيمياء ” رافدا مهما للإبداع بهر النقاد والمبدعين فتوافدوا عليه يعبون منه في أدبهم وشعرهم ..
وسمحت لغة العلامات بالاقتصاد في اللغة ، وتحولت كل لفظة إلى أيقونة مشبعة بالرموز والإشارات ..!
وأيا كان شأن ” السيمياء ” فهي شكلت عتبة مهمة ضمن مضمار النص ، هذه العتبات التي أحالتنا إلى أيقونات لغوية شكلت تداولية الخطاب وساهمت في رسم مسار أفق القارئ
وإثارة اشتهائه السردي .!!.
سيميائية الشخصيات
ببنوعيه ” الرئيسة والثانوية ” :
للشخصيات دلالات نفسية واجتماعية تتفرغ عبرها رؤى مختلفة خلافا لتباين مستويات حضورها كمشارك وليس ككائن ..!
وتوظف السيميائيات مصطلح العامل كبديل عن ” البطل ” كنوع من تجريد الشخصية لحمولتها بغية تعميم أبعادها .!.
والقراءة السيميائية تفرض علينا التوقف عند دلالة أسماء الشخصيات الرئيسة في الرواية من خلال علامات ومؤشرات محددة ترتبط بعلاقتها بباقي الشخصيات وتأثيرها داخل النص فـ ” توليد المعنى لامعنى له إلا إذا كان تغييرا للمعنى الأصلي ” كما بيّن ” غريماس “
لم يكن اختيار الأسماء اعتباطيا في النص ، فقد تقصّدها الكاتب واختارها من التراث العربي بما لها من حمولة تاريخية دالة من ذلك :
الملك االنعمان”شخصية رئيسة ” : في إشارة إلى النعمان بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي الملقب بأبي قابوس ..
من أشهر ملوك المناذرة على الحيرة وكان داهية مقداما وصاحب يومين ممشهورين ” يوم بؤس ، ويوم ننعيم ” وكان أبرشا ” أحمر الشعر ” قصيرا أحب شقائق النعمان وأمر بزرعها حول قصره ” الخورنق “.. نقم عليه كسرى بسبب مكيدة دبرها له زيد بن عدي العبادي زوج ابنته هند وذلك بعد ان طلب كسرى ان يزوجه ، فأوغل زيد قلب كسرى انتقاما لوالده الذي قتله النعمان .. واستدعى كسرى النعمان إلى المدائن على وليمة ، فأهانه وسجنه.
واختلفت الروايات في مقتله والمشهور أن كسرى ألقاه تحت أقدام الفيلة فوطئته فهلك .. وكانت هذه الحادثة سببا في نشوب معركة ذي قار التي انتصر فيها العرب قبيل الإسلام ..!!
يكسر المنجز المألوف في كون الشخصية تبدأ فارغة ثم تمتلئ بالأوصاف تدريجيا بنمو العمل ، فالشخصية هنا ممتلئة يقوم بإفراغها وسحبها على شخصية أخرى ، ليحمّها في بعثها سيمياء جديدة تكسر جمود التاريخ وتختار ان تكون علامة فارقة في مشهدها الجديد ..!!
زياد ” الشاعر ” : هو زياد بن معاوية المشهور بالنابغة الذبياني وهو شخصية مستعارة تتقاطع مع الشاعر الذبياني ويبدو في الرواية شابا وسيما ، واسع العينين ، جهوري الصوت ، عذب الألفاظ ، مفتونا بجمال ” ماوية ” منذ غشيه أمر سقوط نصيفها ولم يكن استتارها بيدها وذراعها ليحول دون انكشاف عورتها التي فضحها هذيان شاعرها فيتحول إلى قربان يتناثر شلوا شلوا ، لكن روحه العنيدة تتمرد على الموت وتتحول إلى طيف معذب بالحب والاغتيال يتابع تفاصيل الحياة في قصر الملك .. ولا نستبعد أن الكاتب نفسه تلبّس بهذه الشخصية ..
” أهو أنت..؟ “
من اين لي ان أعرف انه ظل شاعرها العاشق وليس أنت.؟
يهمس الطيف المأسور منتحبا “
ويتضح أنه هو يحمل كربة الحكاية وقد صهر من الماضي سبيكة عجيبة في روحه ، كي تبقى الأسطورة في مخيال الشعوب وذاكرتها المتجددة التي تصارع الخيبة والخيانة والاغتيال في مجاهيل قصر يزدحم بالمؤامرات والكيد ..!؟
ماوية: هي زوجة الملك النعمان التي لقبها بـ ” المتجردة ” بعد ما كان من سقوط نصيفها .. والتي بلغت من إعزاز مليكها أن جعل الثرى الذي تطأه أقدامها من عجين الطيوب والعنبر والمسك .. امرأة عربية حسيبة ، منعّمة ، بالغة الجمال ، فارهة االعطر” خصرها موسيقىى وخلخالها سر “.. يسقط نصيفها أمام عيني الشاعر زياد فيذكر عنها وعن جسمها أمورا عجيبة .. فيسمع زوجها الملك بذلك فيهدر دم الشاعر الذي تكشّف على حرمته انتقاما لشرفه من خيانة حامت حولها كثير من الظنون ..!
وكان من اختلاف الرواة على مدلول النصيف ما كان من اختلافهم على شخصية ماوية نفسها ..
فقائل يقول هي جارية النعمان وآخر يقول زوجها وآخر يقول انها هند بنت المنذر الكلبية ..!!
وأما النصيف فقيل إنه خمار ، أو رداء تغطي به المرأة جسمها فوق الثياب ..الخ
«وبرأيي فإنّ المعنى الأساسيّ للنصيف يعود الى كلمة ” النصف ” التي تعني ” أحد الشقّين “.
ولعلّ النصيف كان نوعاً من الملابس التي تستعمل لتغطية النصف الأسفل من جسد المرأة التي تلفّ كما تُلفّ وزرة البحّارة في الخليج العربيّ أو الخرقة التي يلفها الداخل للحمّام على عورته ، وتثبّت بتعليق طرف القماشة الملتفة في ثنايا لفّة الخصر مما يرجّح احتمال انزلاقها وسقوطها في بعض الأحيان عن الجسد كاشفة إياه .. ولعلّه من هنا جاءت نواة هذه الأسطورة التي تدور حول العري الخاطف للمتجرّدة عند سقوط نصيفها عنها ..!!
لكنّ القراءة المتمعّنة للنص ستؤدي بنا الى نتيجة واحدة ، وهي أنّ الشاعر قام بوصف دقيق ، متمهّل ومسهب لكلّ الثنايا المكشوفة والمستورة في جسدها ، مما ينفي قضية الفجاءة التي أربكتها وجعلت ” نصيفها ” يسقط عنها ومن ثمّ محاولة استتارها العفويّة بيدها .!.
فتأمّلُ الشاعر في ثنايا هذا الجسد وتفاصيله في لحظة العري الخاطفة تلك كان تأمّل من لديه الوقت الكافي للتمعّن الدقيق والطواف بهذا الجسد الإلهيّ ، فقد شمل الوصف البَصَريّ في النصّ نصفها الأعلى الذي يقسمه ” النصيف ” الى نصفين ابتداء من شَعرَها حتى أعلى فَرْجها .. مما يجعلني أرجّح أنّ ” الموديل ” الذي نحت عليه النابغة قصيدته لم يكن أنموذجاً بشريّاً حيّاً ، بل مثالا متحجّرا أو ” حياة جامدة ” إن صحّ التعبير.
إنّ النصّ ينطق بحقيقة أخرى ، فلم تكن ” المُتجرّدة ” زوجة للنعمان أو احدى جواريه ، بل نسخة من تمثال فينوس ، آلهة الحبّ والجمال والجنس عند الإغريق !» ..!!
رؤبة : جارية الملكة التي تهتم بشؤونها وتجهزها وتعطرها لملكها ..
وهي التي أشار إليها الشاعر النابغة ان تنشد النعمان قصيدته ” يا دار مية بالعلياء فالسند.. ” ومنها قوله :
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني
ولاقرار على زأرة الأسد ..!!
فلما سمعها النعمان أدرك ان الشعر لزياد وسأل عنه فأخبر انه مع صديقيه الفزاريين .. وينتهي الأمر بين الملك وزياد بالاستئناس والمديح من جديد ..!!
غير ان السارد اختار تخريجا آخر للحكاية جعل فيه الملك يقتل الشاعر ، والشاعر يرفض موته ليتحول إلى طيف تعشقه ماوية ولأجله ترفض الخضوع للملك وتنتشر في القصر روائح التمرد والخيانة السرية التي يمارسها الطيف العائم في القصر متفلّتا من عقاب الملك هذه المرة ويتحول إلى لعنة تطارد الملك ..!!
إن قتل الكاتب العمدي للشاعر هو رؤيا فرضتها فجوات الحياة المعاصرة بين الأدب والسلطة من جهة
أو هي امتداد لسيميائية موت المؤلف ” لرولان بارت ” الفرنسي ، التي تسلب المؤلف حق تأليفه ، وتمنح للنص سلطة البقاء والتجدد مع كل قراءة ..!!
أو ربما كانت سحرية ” الفينيق ” هي الحل الوحيد الذي يحقق عدالة القصاص للمحبين ..!!
هذا تخلل الزمن الروائي بعض التقنيات التي عمد السارد إلى توظيفها ومن أهمها : الاسترجاع ” داخلي ، خارجي ” ، الاستباق ” داخلي ، خارجي ” تسريع السرد بتقنياته المختلفة من حذف وخلاصة ،
وكذا تعطيل السرد من وقفة ومشهد ..!
وكان لسيمياء المكان والزمان دلالتهما وفي سياق الحديث عنهما وجبت الإشارة إلى الفضاءين بنوعيهما ” محدود ، موسع “
فالمكان هو قصر الخورنق ..
فضاء ملكي واسع ، رفاهة الحياة فيه وبذخ العيش حرّك الأحداث والوشايات والأخبار والمؤامرات والغيرة والخيانات باتجاه يفسد أجواء المكان .. وفي نهاية المقطع السردي إشارة إلى الصحراء التي هي أشبه بمنفى اختياري للشاعر أو للكاتب نفسه وهي ترمز إلى البيئة العربية الواسعة ، الضالة والمضلة والتي طالما شكلت ملاذا للتخفي أو الهلاك .!!.
فضاء الزمان يصل ماضي الحكاية بحاضر الشاعر في صورة اندماج يتماهى حد التوحد وكأن لكل زمان نعمانه وماويته وزياده أو شاعره ..!
إن علاقة المنهج السيميائي بهذه المستويات تكمن في دراسة تلك الأبعاد الكامنة وراء هذه المستويات التي تحمل دلالات وإيحاءات ورموز ..
فالسارد لا يصرح بحقيقة تلك الأحداث بل نجدها في معظمها متناقضة مع حقيقتها ، وهذا يتطلب من المتلقي أن يكون صاحب فطنة وثقافة ..!!
ومهما كان من قول فإن النص يقول أكثر مما قلنا أو سنقول فمع كل قراءة سيولد نص جديد ..!!!
اجلالي لهذا الإبداع الفذ ..!!
د.إياد الصاوي
التعليقات مغلقة.