السراب بقلم د. نهاد حلاوة
السراب بقلم د. نهاد حلاوة
إن كانت الظروف انتزعتنى قسرا من حضن الوطن الأم فلا بأس من اجترار الذكريات التى صبغها الفراق بألوان داكنة بعد أن كانت تشع بهجة في سياقها الزماني والمكانى.
ولا بأس من تصوير لوحة تتزاحم بها هذه الالوان لتفشى اسرار العلاقة مع الوطن الأم عبر صفحات علي باب مصر
ولكل من تجرع مرارة الغربة أهدى هذه الرسائل المتبادلة .
-أمى الغالية :-
حين أزف حروفي إليك ، أتخيلها طيورا ملونة تحلق عاليا تتجاوز أسوار الغربة – تحط علي حافة نافذة بيتنا العتيق الذى لم تنل السنون من بهائه وشموخه .. تنقر برقة علي الزجاج في تناغم محسوب مع وقع حبات المطر المنساب كدموعك لحظة الفراق … فتفتحين أماه للطيور قلبك و تلملمين فيه الحروف المتناثرة و تحيلينها كلمات فإذا بها تنطق : انى افتقدتك من اللحظة الأولى التى غادرت فيها حضنك الدافئ .
-أبنى الحبيب:-
لقد كنت فظا حين غادرتنى جسدا ، لكنك لم تغادرنى روحا فلازلت أراك أمامى صغيرا يحبو في أرجاء البيت ليتعرف علي عالمه الصغير ثم يعود متعبا إلي صدرى لينهل من نبع الحياة فيسترخى في إغفاءة مستمتعا بأقصى درجات الأمان ..، ثم ها أنت منتصبا كعود أخضر تخطو أولى خطواتك وتسقط فأمد إليك يداى ، ثم تحرك شفتيك بأولى الكلمات . لا زلت انتظرك في الشرفة عائدا من المدرسة تحمل حقيبة كتبك وتلهو مع أقرانك . وأما عن حضنى الدافئ فقد انتزعت معك الدفء منه فلم يعد كذلك .
-أمى الغالية :-
وصلتنى رسالتك الأولى ، وإخترقت كلماتها جدران منفاى الإختياري فحملت إليه شعاعا من الضوء – لكنه سرعان ما تبدد قبل أن أتحقق منه أريد المزيد من كلماتك ، أريد المزيد من الضياء..فالعتمة مسكنى .
-إبنى الحبيب:-
لقد كان المنفى اختيارك أنت وها أنا ذا ، كما هى عادة الأم ، أدفع ثمن اختيارك عن طيب خاطر فلا فرق لدى بين لعبة صغيرة تشبثت بها صغيرا و بين هوة سحيقة دفعتنى إليها كثيرا .
أهربُ من واقعي إلي الذكريات والخيالات فأتوقع دخولك علي بين اللحظة والأخري ، أراك أمامى وأحدثك واعنفك واعانقك وأقبلك .
هل تذكر حين أحمر وجهك خجلا عندما إلتقت عيناك بعيني أبيك وأنت تشير بيديك مودعا ابنة الجيران من شرفة غرفتك ؟
يومها داريت وجهى ،وضحكت من كل قلبي، فقد حباك الزمن تصريحه بالرجولة.
لازلت أذكر يوم حصولك علي الشهادة الجامعية وحين ناولتنى إياها فاحتضنتها في نشوة طاغية فما يخصنى من هذه الشهادة أكثر مما يخصك ، شعرت حينها أن الجامعة -التي لم أدخلها – تعترف بى تكرمني لسهرى الليالي بجوارك حين تذاكر ..ولهفتى عليك حين تعود من امتحانك وأنا أحاول أن أعرف من عينيك وتعبيرات وجهك كيف كانت إجاباتك ،وكم تحرقت شوقا للنتيجة.
كم كنت فظا حين غادرتني
-أمي الغالية :-
لم أكن فظا حين غادرتك ؛ فقد كنت اعتقد أننى أختار بين الموت والحياة فما نحتاجه من مال لرأب الصدع الذي أصاب قلبك الواهى كان دافعى لهذا الخيار ؛ فإذا بي قد خيرت بين الموت واللا حياة.
-ابنى الحبيب:-
لقد زاد فراقك قلبي وهنا على وهنه ، فأما علة المرض فتشفيها الأيام وأما علة الفراق فلن يشفيها إلا اللقاء
أرجوك لو صادفت في ذهابك طريقا للإياب فإني في انتظارك.
-أمي الغالية:-
أرسل إليك بعض الدولارات لتبدأين في عمل الفحوصات اللازمة وعندما يحدد الأطباء ميعاد الجراحة سيصلك المزيد منها ،معذرة لن أستطيع الحضور في الإجازة السنوية فراتبي عن هذه الفترة اسيكون مضاعفا .
-أخي الحبيب: –
سبق السيف العزل …. البقاء والدوام لله!!!!
التعليقات مغلقة.