والد الدكتور بقلم : د. ابراهيم مصري النهر
في أواخر شهر مايو، وأمام بيت من الطوب اللبن، وتحت شجرة توت ضخمة، وعلى حصير من سمار، يتكئ هذا الشيخ المسن على مسند محشو بالقش، وبجانبه صينية القلل، وعند حافة الحصير خُفّه الأبيض.
رأى من بعيد رجلا يقصده؛ اعتدل في جلسته وأخرج من جيب الصديري علبة التبغ، وضع منها على ورقة البفرة وأخذ يلفها بأطراف أصابعه المرتعشة والمبللة بلعابه، ثم اتجه بظهره في وجه نسيم العصاري، وأشغل عود الثقاب بين كلتا يديه وأشعل منه اللفافة، وعندما وصل إليه الرجل؛ سلم عليه، وصافحه، وقبّل يده، وجلس بجانبه.
نادى الشيخ: (يا ولاد اعملوا شاي).
بدأت الفتيات يتوافدن إلى الطرومبة التي أمام بيت الشيخ، وكانت رمزا للثراء في ذلك الوقت، وهن يحملن صينيات القلل والبلاليص؛ لعذوبة مائها، يقصدها القاصي والداني.
بعدما تنتهي الفتيات من ملء أوانيهن يحملن على بعضهن البعض بعد أن يضعن الحوايا، وواحدة منهن دخلت البيت وخرجت وهي تحمل عددا من الأرغفة.
بيت الشيخ مفتوح للجميع، يقصده الغريب والقريب في مساعدتهم وحل مشاكلهم.
بعد أن شربا الشاي قال الرجل للشيخ: ابني خالد في الثانوية العامة هذا العام، والامتحانات على الأبواب، وأحتاج منك مبلغا لأشتري له لبسا وحذاءً جديدين ليحضر بهما الامتحانات، وسأعمل عندك في الحقل حتى أسدده، وسكت هنيهة وهو ينظر إلى الأرض ويهز رأسه ثم واصل حديثه: أحلم أن أراه طبيبا كبيرا يخفف من آلام الناس، وآمل أن يساعدني في كِبَري على تعليم باقي إخوته.
أخرج الشيخ حافظة نقوده وأقرضه المبلغ الذي طلبه.
نجح خالد في الثانوية العامة بتفوق والتحق بكلية الطب، وقلَّت زياراته للقرية ووفر له أبوه بتعبه وعرقه وخشونة يديه وتجاعيد وجهه حياة كريمة مرفهة، حتى ظن زملاؤه أنه ابن باشا أو عمدة، وتأكد ظنهم عندما أخبرهم أن أبيه عمدة الكفر.
قرر أبوه يوما أن يزوره في المدينة الجامعية، وجهز زيارة من خيرات الريف وحملها على كتفه ومشى منتشيا، يسابق الريح، يتخيل لحظة مفاجأة ولده بالزيارة وكم ستكون سعادته، كانت الزيارة بدون سابق إنذار، أحب أن يجعلها مفاجأة له.
أخذ يسأل ويتطقس حتى وصل إلى بوابة المدينة الجامعية وعندها استوقفه رجل الأمن، قال له: أنا والد الدكتور خالد، ألا تعرفني!!.. أنا الذي أنفقت عليه حتى يتعلم وتعبت من أجله حتى أصبح كما ترى.
أجلسه على أريكة بجانب البوابة بعد أن أنزل القفص من على عاتقه، واستدعى له ابنه، الذى أتى ومعه أصحابه مرجلا شعره وتغطي عينيه نظارة ريبان سوداء…. عندما اقترب من البوابة ورأى أباه؛ تكدر صفوه وظهرت عليه أعراض الصدمة والانزعاج والخجل، لكنه سرعان ما تدارك الموقف، سلم على أبيه سلاما فاترا، ونزع يده بسرعة من يد أبيه الذي كان يتأهب ليأخذه بالأحضان ويقبله…
سأله أصحابه: من هذا الرجل الطيب يا خالد؟
قال: The farm worker
عقب أبوه وهو يهندم جلبابه مزهوا: ”أيوه، أنا زي ما قال لكم كده“
The farm worker = عامل المزرعة
التعليقات مغلقة.