على متن الطائرة بقلم :د. ابراهيم مصري النهر
في أواخر شهر سبتمبر وبالتحديد في الخامس والعشرين منه لعام 2007م، الموافق الثالث عشر من شهر رمضان لعام 1428ه، والشمس تطل علينا وتختفي خلف السحاب، وقبل الغروب مباشرة ركبت الطائرة من مطار القاهرة الدولي إلى مطار الملك فهد بن عبدالعزيز بالدمام، مسافرا في رحلة عمل، شعرت بلسعة برد خفيفة، ارتديت معطفا كنت أحمله على ساعدي.
أقلعت الطائرة في تمام الساعة السابعة مساءً بالتوقيت الصيفي، لم يكن يتبق على أذان المغرب إلا دقائق معدودة، وما أن استقرت الطائرة في مسارها وارتفاعها عن الأرض، إلا وأعلنوا أنه قد حان وقت الإفطار، وقامت المضيفات بتوزيع الوجبات علينا بعد أن أرخينا الأحزمة، وتناولنا وجبة الإفطار ما بين السماء والأرض لأول وأظنها أخر مرة في حياتي.
ووصلنا بسلامة الله إلى مطار الملك فهد بن عبدالعزيز بمدينة الدمام في تمام الساعة العاشرة والربع مساءً، وعندما فُتِح باب الطائرة شعرت بتيار هواء ساخن كظهيرة يوم شرد من أيام مصر، خلعت بسرعة معطفي وأنا ألتفت حولى مشدوها، أريد أحدا أسأله: ماذا حدث؟
لكن لا أحد يصغي لأحد، فالكل مشغول في حاله ومسرع الخطى في وجهته.
كان في انتظاري زميل مصري يحمل لافتة مكتوبا عليها اسمي وذلك لسهولة التعرف عليه، ذهبت إليه، وتعرفنا، وركبنا سيارة الشركة، ورحب السائق البنجالي بي بلهجته العربية المكسرة، وأخذت أتجاذب أطراف الحديث مع زميلي المصري؛ سألته عن هذا الهواء الساخن، فضحك بصوت عالٍ وقال ”هواء ساخن أيه داحنا في الشتا دالوقتي أومال لو جيت من شهر كنت قلت أيه“.
ضحكت ضحكة بلهاء لأني لم أع ما يقول.
وصلنا الفندق الذي سأسكن فيه مؤقتا في مدينة الخُبَر، وهناك، وجدت شخصا لا يرتدي من الملابس إلا ما يستر عورته المغلظة، أشعث الشعر، عيناه منتفختان من أثر النوم، وأرضية الصالة من حوله تغطيها أعقاب السجائر المتناثرة في كل مكان، ورائحة السجائر تزكم الأنوف، والتلفزيون مفتوح على قناة خليعة، ألقيت عليه السلام وأنزلت أمتعتي من على كتفي.
عرفني بنفسه: طبيب مصري يعمل في نفس الشركة التي سأعمل بها.. صراحةً، لم أستبشر خيرا؛ إذا كان هذا أول القصيدة، فما بال أخرها.
استأذنته أن أدخل الحمام لأتوضأ لصلاة العشاء، فتحت الصنبور؛ نزل الماء يغلي فأغلقته بسرعة ظنا أني فتحت محبس المياه الساخنة، وفتحت محبس الخلاط الآخر فنزلت نفس المياه، خرجت وسألته عن هذا الخلل، أخبرني أن السخان لا يعمل وأن هذه الحرارة من مواسير المياه، تحملت حرارة المياه وتوضأت وسألته عن القبلة، أخبرني إنه لا يصلي، سألته عن اتجاه البحر وجعلت الخليج في ظهري وملت ناحية اليسار قليلا وصليت اجتهادا مني، ثم أخرجت ما معي من طعام وتسحرنا، ودخلت المطبخ لأشرب وأعد كوبا من الشاي، فخطف الكوب من يدي، وأخبرني أن هذه المياه ليست للشرب أو إعداد الطعام هي فقط للوضوء والاغتسال، إنما مياه الشرب من هذه الجرة.
علمت بعد ذلك أنه لا أحد يرغب في السكن معه، لأنه مدخن شره، ولا يصوم رمضان، وهذا ما عايشته بنفسي.
في أول ساعة من فراق مصر قدر الله لي أن أعرف قيمة مصر وعظمتها، وما حباها الله به من نعم؛ جوها الساحر، ماؤها العذب، طقوسها الرمضانية التي من المستحيل أن تجدها في بلد آخر على وجه الأرض.
في أول يوم غربة اشتقت لها وعرفت أنني لا أستطيع فراقها، أو العيش بعيدا عنها، فهي وإن قلت مواردها، غنية بأشياء لا تُشترى ولا تقدر بمال….
التعليقات مغلقة.