على مائدة وليمة زفاف بقلم د. إبراهيم مصري النهر
كنت في التاسعة من عمري راعيا لبقرتين وابنتيهما، أرعاهم على حشائش تل متاخم لعزبتنا مع أقراني، الطريق إلى العزبة ترابيا، لم يكن معبدا، ومرور السيارات قليل جدا، بالكاد تمر سيارة في الأسبوع.
ذات يوم والسكون يلف التل الذي نرعى فيه، سمعنا صوت سيارة، فرحنا نستعد لمرورها بحصر مواشينا بعيدا عن الطريق وكأن حدثا فريدا من نوعه سيحدث، متعطشين لرؤيتها وكنت أرى ذلك خصوصا في عيون الفتيات اللاتي كن يرعين معنا، اقترح أكبرنا علينا أن نحفر حفرة في الطريق ونعرِّشها ونجري بعيدا، فيسقط فيها إطار السيارة.. اختلفنا؛ منا المؤيد ومنا المعارض، فجأة صاحت إحدى الفتيات: السيارة، السيارة.. فنظرنا مهللين، وابتعدنا جميعا وأخذنا نراقبها من بعيد.
بمحاذاتنا توقفت وترجل منها سائقها، ودنا منا فخفنا وهربنا منه بعيدا.
وقف ونادى علينا: تعالوا، لا تخافوا.. وأخرج من سيالته كيسا، نظرنا لبعضنا، وذهبنا إليه لنعرف ماذا لديه؟!
مشينا نحوه في صف؛ الأكبر فالأكبر، عندما اقتربنا منه أخرج من الكيس بعض حبات الحلوى ونثرها علينا؛ تخطفناها.. ثم سألنا عن كيفية الوصول لعزبة مجاورة لنا، حيث أنهم مدعوون لحفل زفاف بها، وصفت له الطريق ولكنه لم يستوعبه، أعطاني المتبقي من كيس الحلوى واستأذنني في الذهاب معهم لارشادهم إلى الطريق.. طلبت من رفاقي أن يرعوا بقراتي حتى أعود، ركبت السيارة ولوحت لهم فرحا وهم غيظا يلوِّحون.
وصَّلت المدعوين إلى البيت الذي به الطبل والزمر ومراسم الفرح.
دقائق معدودة وأعدت وليمة الغداء وتحرك الجميع إلى طاولة طولها عشرون مترا، وخلال ثوانٍ معدودة تم ملء كل الفراغات، ومن لديه ابن جذبه إلى جانبه.
خرجت أصوات الأضراس وهي تمضغ اللحم، أما أنا فمازلت أبحث عن فراغ أنحشر فيه، أرنو إلى وجوه الرجال الذين يعرفونني لعلهم يفسحون لي شبرا، فجسمي النحيل لا يحتاج إلى أكثر منه، لكن الجوع والشراهة أعمت أبصارهم عني وربما أنكرونني، ولأن والدي لم يكن بالعرس، فأنا أشبه باليتيم.
أثناء سعيي للبحث عن ثغرة أنحشر فيها لمحت أحد الأطفال تحرك من مكانه فهبطت كالنسر الكاسر في الفراغ الذي تركه، نظر إليَّ أبوه نظرة لو أصابت حجر لفلقته، وأصر على عودة ابنه الذي شبع إلى مكانه، لكني لم أبتئس ووجدتني أجرش الطعام، ونلت مأربي، ولمست شيئا من معاناة اليتيم.
التعليقات مغلقة.