السحور الكبير قصة قصيرة بقلم أحمد فؤاد الهادي
اليوم هو العاشر من رمضان سنة 1973، أهل الحي يمارسون طقوس يومهم المعتادة، الدكاكين فتحت أبوابها، الباعة الجائلون ينادون على بضاعتهم بأصوات جميلة ونغمات يعشقها بل ويحفظها الجميع، ومنهم بعض أهل الحي الذين افترشوا جوانب الشارع ببضاعتهم من الخضار والفاكهة، الشارع مزدان بما أبدعه شبابه من الورق الملون في انتظار المغرب لتضيء المصابيح الكهربائية زيناتهم التي تستمد طاقتها من كهرباء البيوت، البيوت تبدو كغرف في بيت واحد، الأبواب كلها مفتوحة للجميع، وجوه الناس تنطق بانتظار الفرج، تنتظر نصر الله على الباغي الذي احتل الأرض، ست سنوات عجاف منذ النكسة، وجبال الصبر قاربت أعنان السماء.
ما أن أذن العصر حتى سرت روح الأمل في كل القلوب، القوات المسلحة تعلن عن اشتباكات مع العدو على الجبهة، الجميع يتساءلون: هل هي الحرب إذن؟ كان سؤالا طاغيا على كل البيوت ولا أحد يملك الإجابة، فالأمور تدار بسرية تامة وخداع ليس له نظير.
صوت الشيخ محمد رفعت يصدح بسورة الرحمن ثم ينطلق مدفع الإفطار ويرتفع الأذان: الله أكبر.
تجمع العديد من الشباب والشيوخ بمقهى المعلم مندوه وعيونهم معلقة بالتلفزيون في شغف وقلق، حتى أصحاب الدكاكين أغلقوها وانضموا للمجتمعين: الأسطى جلال الحلاق، ميخا العجلاتي، سالم العلاف، الحاج إمام البقال، وعندما دخل الأسطى عبده المكوجي سارع بعضهم باستقباله، فولده محمد قد أنهى دراسته بكلية التجارة وهو الآن ضمن الجنود على الجبهة يؤدي الخدمة الوطنية.
” ربنا يطمنك ويطمنا على محمد افندي ياعم عبده” صاح بها شاب من مكان بعيد فالتفتت كل الأنظار إلى الرجل الذي بدا شامخا فخورا مطمئنا.
الشاشة تعرض مشاهدا لجنودنا بقواربهم المطاطية وقد استقبلتهم مياه قناتهم الغالية بشوق وفرحة وحملتهم إلى برها الشرقي، وهذا جندي يحمل مدفع ميدان يزن أكثر من مائة كيلو جراما على ظهره إلى جانب الجربندية وشنطة الجراية وسلاحه الشخصي والقنابل اليدوية والذخائر يتسلق الساتر الترابي الشاهق بخفة ورشاقة غزال، وكلما التقطت الكاميرات وجها من الوجوه ترى فيه البشر والإقدام والحماس والطمأنينة وهو يزأر: الله أكبر.
عم حسن الشرقاوي الذي يمشي بعكازه ونساعده حتى يجلس قفز كالطفل عندما أعلن التلفزيون نجاح قواتنا في اقتحام الحاجز المائي وخط بارليف ورفع العلم فوق نقطة حصينة، أو التي كانت حصينة، الكاميرا تقترب من وجوه الأبطال حتى استقرت على وجه من رفع العلم، ليرى الجميع أنه محمد افندي، ابنهم، طار الجميع فرحا، وبلا اتفاق مسبق، صدح صوتهم: محمد افندي رفعت العلم .. وطولت راسنا ما بين الأمم، الجميع ينطلقون إلى الشوارع، ينضم إليهم الخواجة ناشد عجايبي تاجر الكيماويات، وعم حنا وعم شقيق الموظفين بالسكة الحديد، كل النساء والفتيات، الباعة الجائلين الذين لا نراهم إلا نهارا، المصلون الذين فرغوا من صلاة التراويح، النساء والفتيات حتى الأطفال، الزينة تتراقص معهم تداعبها نسائم النصر الذي بات وشيكا، الكل يهنئ الكل، والوقت يمضي حتى علا صوت المؤذن بصلاة الفجر، واصطف الناس داخل وخارج المسجد للصلاة.
لاح صباح الحادي عشر من رمضان وقد تسحر الناس نصرا يكفيهم لصيام الدهر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتهت … ولكنها لم تنته …
فبعد أربعين سنة، في 2013 في ميدان التحرير، كان العلم يدنس بأقدام الخونة وقد التفوا حوله في دائرة ثم أضرموا فيه النار، تساقطت الدموع والكلمات وأنا أستعيد صورة الشهيد محمد افندي:
محمد افندي رفعت العلم
وطولت راسنا ما بين الأمم
يا رايح شهيد في قبرك سعيد
أنا عشت بعدك ودوقت الألم
وشوفت الكلاب على كل باب
بتدهس وتحرق أشرف علم
محمد افندي ليه سيبتني؟
أعيش للسعادي أهتف وانادي
محمد افندي حرقوا العلم
آه يا شهيد بحق وحقيقي
لا حد سامع ولا بل ريقي
حرقوا العلم ولاد الأفاعي
حرقوا العلم يا محمد
حرقوا العلم يا حبيبي
20/11/2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتلك أيضا لم تنته … فإلى لقاء.
التعليقات مغلقة.