علاقات خريفية بقلم د. إبراهيم مصري النهر
تخرج من كلية الطب وبعد أن أنهى سنة الامتياز، تم تكليفه باحدى الوحدات الصحية الريفية، ليمارس عمله طبيبا في قطاع الطب الوقائي، في يوم ذهابه لاستلامه العمل بهذه الوحدة الذي أضناه السفر للوصول إليها، أنزله سائق التوكتوك على بعد أمتار من سياج لأشجار الزينة يحيط بمبنى أبيض، وأشار بسبابته ناحية المبنى قائلا: ها هيّ الخرابة التي تنشدها، أقصد الوحدة حتى لا تزعل؛ يبدو عليك طبيبا جديدا لها.
أومأ الطبيب برأسه أن نعم، نعم، وأخرج حافظته وأقبضه مقابل توصيله، وودعه مبتسما.. حمل حقيبته المكتظة بملابسه وبعض الطعام، بمحاذاة البوابة وقف وألقى نظرة على الوحدة، لم يرها خرابة كما وصفها سائق التوكتوك، رأى مبنى جديدا يتوسط حديقة غناء يحتضنها سياج من نباتات الزينة المزهرة.. رفع كفه اليمنى في الهواء وحركها نصف دائرة وضغط على جانبي فمه وعوج عنقه متعجبا وقال في نفسه: ربما يمزح.
دخل الوحدة، تعرف على كاتبها وباقي موظفيها الذين رحبوا به، تسلم مقاليد عمله، بعد أسبوع من العمل لمس كم الخراب الذي كان يقصده سائق التوكتوك؛ من نقص في الأدوية والمستلزمات الطبية، وعطب في الأجهزة الطبية، وسوء المعاملة المتبادل بين المرضى والطاقم الطبي.
عمل من أول يوم جاهدا على تجميل هذا الخراب بفرشاة طبه وحسن خلقه؛ أحسن استقبال المرضى، امتص غضبهم، داوى جرح النقص في الأدوية بمخاطبة الجهات المختصة والإلحاح عليهم لتوفير الدواء، بدأت الصورة تبدو أجمل من ذي قبل، يتسرب إليه اليأس أحيانا، يكاد ييأس، ليس هناك من معين، الكل يثبطه ويثنيه عن مواصلة المسير بأقوال بائسة امتلأت بها جعبتهم من أمثال “أنت هاتعدل الكون“ أنت بتأذن في مالطا“…
وفي ظل هذه الصورة المعتمة لاح شعاع نور، غرس بين هذا الخراب وركام الإهمال وردة جميلة، رسمت معه لوحة إنسانية تطفي على كل هذه التشوهات جمالا من جمال روحيهما وحسن أخلاقهما.. قدوم هذه الطبيبة الشابة لطف من التصحر العاطفي الذي يعاني منه هذا الطبيب الشاب، وأصلح من الخراب الخدمي الذي يعاني منه المريض.
تبادلا معا الفرشاة لتجميل الصورة، وخلق روح من الحب والتعاون والاحترام المتبادل بين طاقم العمل، وبدأ المرضى يرتادون المكان، وتعلق أهل القرية بالطبيب والطبيبة تعلقا شديدا، وأخذوا يحكون عنهما الحكايات في الإخلاص والتفاني في العمل، والمهارة الفائقة في تشخيص أمراضهم وتخفيف آلامهم.
في أحد أيام الخريف، وفى نسيم العصاري، جلست الطبيبة تحت أشجار حديقة الوحدة العارية من الأوراق غارقة في أفكارها، جاء من الخلف الطبيب بأقدام تهشم أوراق الشجر الساقطة، وسحب كرسيا وجلس مقابلا لها.
وسألها: فيما تفكرين؟
بعد تنهيدة طويلة أتبعتها بابتسامه ماكرة أجابت: إن الخريف أحب فصول العام لديّ، فيه الحقيقة المجردة من كل زينة، فيه التعرية لتظهر العيوب كالميزات جلية، لا كذب لا خداع لا غموض، الوضوح وكشف المستور هو سيد الموقف في هذا الفصل، كما يقولون: ”على عينك يا تاجر“.. وسكتت هنيهة وواصلت: وكذلك في العلاقات بين البشر يجب الوضوح وعدم اللف والدوران، لذلك فالعلاقات الصريحة التي لا يشوبها الغموض تدوم.
ولكن الطبيب تظاهر بعدم إدراك ما قالت، وجعل أذنا من طين وأخرى من عجين.
التعليقات مغلقة.