ندبة على جبين الذكريات…
د. ابراهيم مصري النهر
ندبة على جبين الذكريات
ينذر أبي كل عام ليلة لوجه الله كعادة سنوية، يدعو أهل القرية فيها للعشاء، يقوم بالاعداد والتنظيم ابن عم من سن أبي أو يصغره قليلا -محبوب من الجميع وصاحب أبي “الأنتيم“، حلو الشمائل، خفيف الظل، وسيم خَلقا وخُلقا- يفرش الدهليز بالحصير، ومع أذان المغرب يشعل الكلوب.. يتوافد الجيران إلى البيت، يبدأ في رص الأطباق على الطبالي (طبليتنا وطبالي الجيران المستعارة)
يصل محييو الليلة بدفوفهم ومزاميرهم، يتناولون اللحم بالفتة، ويحتسون المرق بالطبق، يمسحون شواربهم بأيديهم، ويفركونها ببعضها لتلمع مع ضوء الكلوب.
يشربون الشاي، يلفون أوراق بفرتهم، يدعون لصاحب البيت بالبركة ودوام العادة.
يشعل ابن عمي نارا، يمررون عليها دفوفهم ويختبرونها، ثم يمررونها ويختبرون……..
حتى تعذب نغمتها وترق.
تبدأ حلقة الذكر بما فيها من خرافات وخزعبلات، يضربون على الدفوف، ينفخون في المزامير، يتمايلون يمينا ويسارا، يلهجون: الله حي، الله حي.
يتفصد جبينهم عرقا، يقع أحدهم على الأرض ويسيل لعابه؛ نُفزع نحن الأطفال، تتعالى ضحكات الآباء فنطمئن.
أسأل ابن عمي: ماذا حدث له؟!
يجيبني: حضرت جلالته.
أتساءل بيني وبين نفسي: أي جلاله هذه؟! وأتمتم: لعله يقصد ضلالته…!
لا يلبث على هذه الحالة طويلا ويفيق، معلنا صافرة النهاية.
يفرق ابن عمي أطباق الرز بلبن على الحاضرين، ويرش كبيرهم حصى الملح لإذهاب العين والحسد بزعمهم.
في الصباح اصطحبني أبي معه إلى الغيط، وفي الطريق أخذا يسردان هو وابن عمي ما حدث بالليل ويضحكان.
في المساء حمل إلينا الخفير إشارة من مركز الشرطة مفادها أن ابن عمي مطلوب للتجنيد.. في الصباح أعد حقيبته، بات ليلتها معي، صحا وأذان الفجر، قبّلني وأبي مودعا، وذهب ملبيا نداء الوطن (الحرب على الإرهاب في أرض سيناء) .
انقطعت أخباره إلا من هذا الخبر الذي وصلنا بعد شهرين من غيابه….
في ليلة حالكة السواد، لا قمر فيها ولا حتى نجم، طرقوا باب الدار بعنف، استيقظنا مفزوعين، مقبوضي القلب، هرول أبي إلى الباب وهو يردد: خير اللهم اجعله خير.. وسأل: من بالباب.
- الشرطة، افتح.
أخبروا أبي خبرا، جعله يجثو على ركبتيه وينهنه كالطفل، وأخذوه معهم ليتسلم الجثمان.
د. ابراهيم مصري النهر
التعليقات مغلقة.