قهوة المساء :ترويض النفس بقلم داوود الأسطل
ترويض النفس يعني إخضاعها وتهيئتها وتدريبها للسمو والرقي .
والنفس هي الكينونة الإنسانية التي يسعى صاحبها الى التحكم فيها ، فإن فشل في ذلك تحكمت نفسه فيه ، وكان أقرب إلى طريق الغواية والانحراف .
قال تعالى :
( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) يوسف 53
فالنفس تحتاج إلى ترويض مستمر يكبح جماحها ويهديء من روعها ، ويضبط سلوكها .
الإنسان مخلوق رئيسي في الحياة الدنيا ، مرتبط بأقدار الله المحيطة به في كل مكان ، وقد سُخِّرت له كل المخلوقات الأخرى ، ليُبتَلى بها ، تمهيداً إلى دار الآخرة المعدّة له ، فإما مسكن الخلود في الجنة أو في النار .
والأقدار الإلهية محجوبة تماماً عن الإنسان ، وكلها له خير ، حال ضبط نفسه وتحكمه بها ، والصور الدالة على ذلك كثيرة ، وهي مجموع الإبتلاءات المحيطة بالإنسان من كل جانب .
قال تعالى :
( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف 7
انظر إلى نفسك وراجع حساباتك وتقبل قدرك ، فقد يكون ما وقع بك من بلاء هو دافع لبلاء أكبر ، ولو رجعنا إلى قصة العبد الصالح مع نبي الله موسى عليهما السلام ، لعرفنا بأن القدر الذي رُفِعَت حُجُبه عن العبد الصالح وبقي مجهولا لموسى كان قدر خير لوالدي الغلام الذي قتله العبد الصالح ، وإن كان ظاهر الأمر فعلاً شنيعاً .
والسؤال هنا هل يجوز لنا قتل من نراه مفسداً استناداً لهذا الفعل الذي قام به العبد الصالح ؟
والجواب بالتأكيد لا ، لأن الهدف من السرد القصصي هنا هو إعلامنا نحن بطبيعة أقدار الله التي يجريها على خلقه ، لنفهم ماهية الترويض للنفس لتقبل قدر الله كيفما كان ، وما كان لهذا الفعل أن يعلمه علماء ذلك العصر ولا أولياء الدم في حينه حتى لا يكون سلوكاً مجتمعياً ، وما نُشِرَت خباياه إلا بعد مرور الوقت الكافي ليصلح أن تُضرب تلك الحادثة مثلا لأقدار الله ، يتقبلها المجتمع المتلقي لخبرها .
قال تعالى :
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) الأنبياء 35
إننا اليوم نعيش الذكرى الرابعة والسبعون لنكبة فلسطين ، وهي من قدر الله علينا ، كما أنه ابتلانا بِشَرِّ الناس وأكثرهم فساداً وإفساداً في الأرض ، فقد اختار الله الشعب الفلسطيني واصطفاه ليحارب هذا الفساد ويجاهده ، واتخذ مِنَّا شهداء ليكونوا شفعاء للأمة جمعاء ، وقد منحنا الله سبحانه قوة التحمل والصبر على إزهاق الأنفس وفقدان الأولاد والأصدقاء وضياع الأموال بالهدم والتجريف ومصادرة الاراضي والممتلكات وابتلانا بالصبر على الجوع و تحدي الخوف .
صدورٌ عارية تقف أمام دبابات عاتية ، حجارة مقدسة هي السلاح المعتمد ، بعض الصناعات العسكرية البدائية التي لا ترتقي الى تسميتها المتعارف عليها في قواميس العتاد العسكري ، وأقلام حُرَّة وإرادة صلبة ، تتحدى كل ما أنتجته العقول البشرية من آلات البطش والتدمير والقتل الذي يستخدمها العدو الغاشم والتي صنعتها أيدي البشرية في كل مكان في العالم .
ما أجمله من قدر إلهي ، نحن راضون به ، ونحتسب ثباتنا عند الله ونحتسب قتلانا شهداء عند الله ، بل ونحتسب أنفسنا جميعاً مرابطين في سبيل الله ، وما أعظمه من قدر .
نحن دوما محتاجون لترويض النفس ، ولنصبر على ما أصابنا .
قال تعالى :
( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) لقمان 17
فلنحمد الله على كل حال من أحوالنا فما هي إلا أقدار الله ، قَدَّرَها لصلاح أمرنا ، وكلها لنا خير ، فلنروض أنفسنا على تقبلها أياً ما تكون .
داوود الأسطل
فلسطين – غزة
15/5/2022
التعليقات مغلقة.