هل قضت التكنولوجيا على أصول مدينتي؟ بـ قلم أسـمـاء الـبـيـطـار جمهورية مصر العربية – محافظة المنوفية – منوف
هل قضت التكنولوجيا على أصول مدينتي؟ بـ قلم أسـمـاء الـبـيـطـار جمهورية مصر العربية – محافظة المنوفية – منوف
في زمن ليس ببعيد كانت الأصالة تورث، فترى والدك نسخة من جدك ووالدتك نسخة من جدتك، وأنت نسخة مصغرة من الجميع. تحمل نفس المبادئ والقيم، والأصول والعادات تمتلك عقلا ناضجا رغم صِغر سنك، فتتصرف بعقلانية وتنطق بحكمة الكبار. تعرف منذ نعومة أظافرك ما عليك من واجبات نحو الأهل والأصدقاء ومن قبلهم الجيران. كان البيت بمن فيه وحدة، يصعب تفكيكها، كانت روح الجماعة هي السائدة. في الأفراح والأتراح الجميع يؤدي دوره وكل بصفته وشخصه ويقوم بواجباته نحو الآخرين على أكمل وجه. كانت هناك مواعيدا ثابتة لوجبات الطعام خاصة وجبة الغذاء، الكل لابد أن يكون حاضرا وكأنه موعد مقدس. والتجمعات العائلية المُصغرة يوم الجمعة في بيت الجد والجدة. أما التجمع العائلي الأكبر الذي يضم جميع أفراد الأسرة فيكون في المواسم والأعياد. كنا جميعاً نسخة مصغرة من بعضنا، نحمل الكثير من الصفات المشتركة، والمبادئ الراسخة التي لا تتغير بمرور العمر، خرجنا من تحت عباءة البيت الكبير أبناء عمومة وأصدقاء، ووجدنا أنفسنا جيلًا متماسكا إلى يومنا هذا. ولن يختلف الأمر عن علاقاتنا بالجيران، فكان لهم حقوقا كأنهم جزء من العائلة، لبيوتهم حُرمة تُصان، كنا جميعاً إخوة لا يستطيع أحد منا أن يرفع صوته أو عينه على ما ليس له. وإن حدث ومال طرف إلى الآخر فتكون العلاقة في النور ويعلم الجميع بها، وكثيراً كُللت هذه العلاقات الواضحة بالزواج. حتى وإن لم تنته بالزواج، فالجميع إخوة دون أن تسود بينهم روح الفُرقة والنزاعات أو القطيعة. كان هناك يقينا بأن ” القسمة والنصيب ” هي الحد الفاصل لهذه العلاقة. كان البيت الكبير المدرسة الحقيقية التي كنا نتنقل بأصولها وتعاليمها من مرحلة إلى أخرى، ومن حال إلى حال. وما كان ينطبق على الأهل والجيران، كان ينطبق على زملاء العمل وأصدقاء المدرسة والجامعة. ولا أحد ينكر أن هناك أجيالا كاملة عاشت هذه المرحلة الأصولية والتي نعيش على عبق جمالها إلى الآن. كانت حياتنا تتميز بالبساطة في كل شيء، وكانت تسود بيننا روح المحبة والألفة والتعاون، والرحمة والمودة والاحترام. لم يكن هذا حال بيتنا الكبير فقط، بل مدينتي بأكملها، حتى ” الأشقياء ” منهم كانوا ” يختشون ” ويوقرون الكبار ويطلبون رضاءهم والدعاء لهم بالهداية. كان هذا حال بيوتنا ومدينتا بالكامل. إلى أن بدأت تظهر الوسائل التكنولوجية الحديثة، فأصبحنا نستسهل كلمة ” بتقرب البعيد “! وبدأت اللقاءات والزيارات تقل بحجة أننا مع بعض ” على التليفون ” واكتفينا باللقاء في المواسم والأعياد المتباعدة! وكلما تطورت وسائل التواصل زاد البعد والفجوة إلى أن ندرت اللقاءات وكادت أن تنعدم بعد وفاة الجد والجدة! و للأسف الشديد: استبدالنا البيت الكبير بالجلوس وراء شاشات العالم الأزرق! وتبدلت أحوال مدينتي بأكملها، وتفَتت البيت الكبير، ولكن ظل بداخل ” من عاصره ” روح الأصالة بكل معانيها السامية. إلى أن هاجمت التكنولوجيا أجيالنا، وداهمت منازلنا جميعاً. فصمت آذانهم عن الاستماع حتى لحكاياتنا عن هذه المرحلة بكل ما فيها من خير وجمال وتعاليم تضع حتى أقدامهم على الأوامر والنواهي والحُرمات التي تربينا عليها. واتسعت الفجوة وأصبح لكل فرد في الأسرة عالمه الخاص! استبدلت أجيالا كاملة الأهل بأصدقاء العالم الافتراضي. ففضلوا سماع نصائح من مجهول، على سماع نصائح أقرب الناس إليهم، ابتعدنا كثيراً عن البيت الكبير وأخلاق مدينتا، وانغلقنا على أنفسنا، فأصابتنا الأمراض النفسية التي لم نكن نعلم عنها شيئاً. شاهدنا جرائم في وضح النهار تقشعر منها الأبدان، كنا نسمع عنها في الأخبار في بلاد غير بلادنا وعالم غير عالمنا. وتمكنت التكنولوجيا للأسف منا جميعاً، ونفرت أجيالنا من حكاياتنا عن بساطة حياتنا القديمة؛ واستسلمنا! فتملكهم الجمود والجحود وافتراس الغرباء لهم بكل بساطة. لا نحتاج إلى معجزة كي نعود إلى حيث ننتمي، إلى بيتنا الكبير ومدينتنا الطيبة، وأصولنا الوسطية في كل شيء. بقدر ما نحتاج إلى صبر على أبنائنا، وأن نتقرب منهم بلطف ونكون لهم أصدقاء، نجاري زمانهم ونجذبهم لزماننا بمقارنات لطيفة محببة إلى قلوبهم، نحكي لهم عن جمال وأصالة أجدادهم وجيراننا الطيبين ومدينتنا المترابطة و التي نعرف فيها بعضنا جميعاً عن قرب. وإلا سيكون البيت الكبير مجرد حالة يصعب تكرارها في ظل هذا التطور المرعب وسيدفن مع أخر جيل خرج منه.
التعليقات مغلقة.