حلم لم يكتمل “قصة قصيرة” بقلم / سامح ادور سعدالله
حلم لم يكتمل “قصة قصيرة” بقلم / سامح ادور سعدالله
قديمًا، عندما كنت طفلًا، كم تمنيت ورجوت أبي أن يشتري حصانًا لأركبه، وأجري به بين الحقول، وألعب مثل غيري من الأطفال. لكن والدي لم يكن بمقدوره شراء الحصان، وهو أيضًا غير قادر على أن يعول الفرس معنا.
حاولتُ كثيرًا أن أجد أحدًا يعطيني حصانًا مجرد دقائق، لكنني لست صديقا لهؤلاء أصحاب الخيول؛ فهناك فرق شاسع بيني وبينهم؛ اللهم إلا عندما كان يأتي صاحب الحنطور ليلا ليفك أسر الحصان من سرجه وعريش الحنطور، كان والدي يترجاه أن يُركِبني حصانه، لكنه كان يرفض، وعندما يدفع له أبي كان يرضخ للقرش.
كنت أبكي كثيرًا، وكانت أمي تواسينى و تشجعني عندما كانت تقول لي: غدًا عندما تكبر وتنجح في دراستك وتتفوق سوف تربح المال الوفير، وتصبح رجلًا ذا قيمة بشهادتك وعلمك وسوف تشتري كل شيء تتوق إليه نفسك ليس الحصان فقط.
كل يوم كنت أحلم حلمًا مثلما أخبرتني أمي إياه، وعندما كنت بصحبة والدي للعمل في الحقل، وعند غروب الشمس، كنت أرقب عودة الفلاحين أصحاب المساحات الشاسعة من الأراضي الصغيرة، وكذلك المعدم الأجير.
تغرب الشمس عابرة وجهي في بطء شديد، ومعها يتجدد حلمي كل يوم أن أصير فارسًا نبيلًا يحمل سيفه ممتطيًا جواده، سابحًا يشق الريح.
لم يمر الوقتُ طويلًا حتى رحل والدي إلى دار الخلود، تاركًا خلفه أمي وثلاثة إخوة كلهم أطفال، وخمسة قراريط وبيتًا صغيرًا مساحته خمسون مترا مبنيًّا دورين من الطوب اللبن، والحمد لله لا ديون علينا و كذا لا دين لنا.
تغيرت الأمور كثيرًا؛ كبرت أمي سريعًا، وأصابها العجز مبكرًا، لكنها ما زالت تدفعنا بقوة في اتجاه العمل والنجاح، ورغم غلق أمي بابها علينا، كانت مثل الدجاجة تجمعنا كل ليل تحت جناحيها. أمي أسد زائر فاقت قوتها الأسود و جمالها الغزلان ورشاقتها النسور، لكنني كم كنت غبيًّا عندما كنت كثير الإلحاح عليها كي تشتري لي حصانًا، كانت تعيد قصتها عليّ، وكنت أعرف جيدًا أن أمي لا تملك ثمن سرج الحصان وليس الحصان نفسه، تأخذنا الأيام بعيدًا، وأنجح وأكمل دراستي؛ التحقت بالجامعة، ونجحت وتفوقت وتخرجت وأخذت شهادة جامعية؛ لكنني كثيرا حاولت وفشلت في العثور على عمل حتى في القطاع الخاص، و لم يكن أمامي إلا العمل في حقلنا الصغير.
وتمر الأيام، وأنتظر يوم أن تشرق الشمس بنور جديد يجدد الآمال داخلي، كانت ظلمة، وكنت أحتمل وأحمل نفسي العيب لا غيري، وكم كنت ناقمًا على الأيام وعلى الشباب الذين في نفس عمري الذين كانوا يتمتعون بحالة اجتماعية ومادية أفضل مني بكثير، رغم كوني تفوقت عليهم في العلم والدراسة فقط، كل هذا لم يشفع لي!
حاولت جاهدًا لكسب المال، لكنني أيقنت أني ولدت فقيرًا، وليس لي سوى الأحلام هي المباحة لي. فكرت أن أفعل مثل باقي الشباب؛ كانوا فقراء أيضًا و نجحوا وتمكنوا من الوصول لمبتغاهم.
ولماذا انا لا؟
ذهبت بإرادتي لنصابين بائعي أوهام في الهجرة غير الشرعية، ربما أجد عندهم ملجأ، أو فلأغرق على شواطئ البلاد التي كانت تسرق الخبز منا قديمًا، وكل هذا لم يجد نفعًا؛
أو لأرتبط بعجوز أجنبية تملك المال وأعيش معها بضعة شهور أو سنوات قليلة، لتأخذني معها لبلادها، أو تنتقل إلى ربها وأكون الوريث الوحيد لها.
ذهبت هناك حيث يتواجد السياح، وبحثت عن عجوز، وجدت الكثير، وسمعت حكايات كثيرة مثلما قرأت عنها في الجرائد. رأيتها عجوزًا تخطت السبعين مع مراهق لم يتجاوز العشرين، أكملت البحث، وأخيرًا وجدتها، وعندما طلبت منها الزواج وافقت.
نتظرت أن يرسل الله في طلبها كثيرًا، كنت عنيفة قوية المراس، ما كنت أقوى عليها لا أنا ولا أمي ولا أختي، كانت مسرورة جدا ببيتنا العتيق الطيني، وكانت بخيلة جدًّا، تعتمد علينا في كل المصروفات، وكم تمنيت أن أقترب منها، والفوز بها مرة. كانت عنيدة، وعندما تشاجرنا لعدم قبولي طلبها الخيالي، وحاولت إصلاح الأمر بشتى الطرق، وطلبتُ أن نغادر إلى بلادها، رفضت وطلقتني وسرقت شال أمي الوحيد ورحلت.
كان اليأس من نصيب هذه المرأة، ضحكت أمي، وعندما عادت تكرر قصتها في العمل والاجتهاد قررت أن أتصنع الغباء القاسي، وطلبت منها أن تشتري لي حصانًا.
خرجت إلى الحقل، وأمسكت الفأس، وضربت الأرض بقوة؛ كانت كل ضربة تزلزل الكون من حولي، رفعت جبينى، تذكرت يومَ كنتُ صغيرًا بجوار أبي، وعندها عبرت الشمس الغاربة باهتة، لم تعد تضوي في عيوني رغم كون الشفق الأحمر يثير الإعجاب في قلبي وعقلي؛ وجدتها اليوم تلقي حملًا ثقيلًا بدل النور الذي تمنيتُ أن يزورني كثيرًا، نظرت للشمس، شاهدت الفرس الذى تمنيته كثيرًا، ووجدت فارسًا عليه يمسك بلجام، كان يشق طريقه بين السحاب، وكانت الشمس تمر من على وجهي مملة وبطيئة.
التعليقات مغلقة.