بلاغ بقلم عصام الدين محمد
وقفت عنوة؛وكأنه هناك من شدني،أشعر أن وقوفي نتج عن معركة لا أدري عنها شيئا!
أين حقيبتي التي كانت ملتفة حول عنقيّ؟
ها..ألمحها بيد من يرتدف خلف آخر دراجة بخارية،كيف انتقلت من رقبتي ليده؟
أين كنت؟
لا أدري،بل تعلم يقينا أنك تسير بشارع التحريروالساعة لم تتجاوز الحادية عشر صباحا،ماذا أفعل الآن؟
لن تفعل شيئا،أنظر إلى قميصي الممزق،الظاهر أن الجذب كان عنيفا،ألملم تمزعات القميص.
ماذا سيقول الناس حال رؤيتهم هيئتي تلك؟
أهناك ناس؟
ألتفت يمينا،أحاذي رجلا مذهولا،وددت أن أقول له:
لماذا لم تحذرني أو تنبهني أو تفعل أي شيء لتوقظني من سرحاني؟
ولكنني آثرت السكوت،فربما يكون الرجل قد خشى على نفسه أو ألجمته المفاجأة، لفافة قطن انحشرت في زوره،على الأقل أسأله ماذا حدث؟
دعك من هذا التأمل الذي لا جدوى فيه!
لملم شتات نفسك،لتسرع الخطى لعلك تلحق بهذه الدراجة البخارية،لتتأكد من ملامح الصبي المرتدي فانلة حمراء،المنتصب فوق الدراجة وكأنه متوج بتاج الكسب!
انتبه حتي لا تقع،أي نعم ركبك ترتج،ولكن التماسك حيلة من لا حيلة له،لم يتبق على قسم الشرطة سوى مائتا متر،وضحت لي بعض جوانب المشهد،أعالج قميصي والذي أضحى كبدلة رقص فاضحة.
أهرول،المارة منشغلون بالانسلال ما بين السيارات المندفعة،تصبب جبيني عرقا،وسياط الوجع تنهش جوفي،أين الهاتف؟
أقّلب جيوبي،أكتشف- أخيرا- أنه بالحقيبة،ثلاثة آلاف جنيه ثبت ضياعها يا أبا العيون الذابلة،لماذا المبالغة يا فالح؟ ثمنه الآن لا يتجاوز مائتي جنيه،مازالت المحفظة موجودة في جيب سروالي الخلفي،ما أكثر الموتوسيكلات بالشارع!
ربما جميعهم لصوص!
ها أنا اقتربت من القسم،أمام الباب رهط من أمناء الشرطة،يسألني أحدهم:
ماذا تريد؟
أبلغ أنني سُرقت.
أين ومتى؟
عند مركز البحوث،منذ ربع ساعة.
يشير لآخر،فيسألني ذات الأسئلة .
ثم يصيحان على ثالث،ليستجوبني ويسجل بعض كلمات في أجندة.
ليصحبني رابع،يمشي بضعة أمتار.
ليأمرني بالصعود للدور الثاني،والسؤال عن أمين تسجيل محاضر البلاغات.
الغرف مغلقة ماعدا واحدة،ألجها،بها ثلاثة مكاتب،أثنان في مواجهة الداخل،والثالث يقابلهما،يسألني الجالس فوق المكتب المواجه لدخولي:
ماذا وراءك؟
أحكي القصة للمرة الرابعة أو الخامسة،ثم يطلب مني الجلوس وانتظار الأمين المختص،فهو في مأمورية وسيأتي حالا،أمامه خريطة مليئة بالمربعات والأرقام،يجري أكثر من عشر مكالمات هاتفية،وبانتهاء المكالمة يسجل فوق إحدى المربعات رموزا،ربما ينشر الرجل الخبر على الوحدات المتحركة،فمازال اللصان في حرم القسم!
وكأنك رجل مهم!
لم أصدق رواية محمود:
“يقطع الليل البهيم بين حقول الذرة،سيمفونية نقيق الضفادع وهسيس حركة شواشي الذرة تكبل حركته بالتوجس،فالموتوسيكل الذي يمتطيه موضة قديمة،اشتراه منذ سنتين،يدور”مني فلة”،وأصداء زئير وابور الطحين يصيبه بتتالي الرجفات،لم يكن ممكنا تأجيل مشوار العودة لما بعد الشروق.
دراجة نارية حديثة تأز جواره،تحاذيه،ثلاثة من الشباب متكدسون فوقها،يتبادلون السباب والتجهم،يقتربون أكثر،أحدهم يمد يده لخطف المفتاح من “الكونتاكت”،يضربه محمود بقوة،يسترد المفتاح،ولكن تتوقف دراجته.يهينم:
ضعت يا واكل ناسك.”
طال الوقت،الأمين المُرتقب لم يأت بعد،فتاتان تتمازحان فوق المكتب المجاور.
يهرسني الوقت بعجلاته الفولاذية،ألا يمكن لهذين اللصين الوصول لرقم زوجتي وأولادي؟
فربما يتصلون بهم ليخبرونهم-مثلا-بأنني تعرضت لحادثة مروعة،وأنني أعاني اللحظات الأخيرة،ويطلبان العنوان ،ربما يبحثان عن تعويض لمغامرتهما الفاشلة،فليس في الحقيبة إلا الهاتف المحمول القديم متدني القيمة،وروايتان لكاتب مغمور،أكيد انتظارك لهذا الأمين سيطول،يلاحظ شرودي فيسأل:
أتحفظ رقم هاتفك المسلسل؟
بالطبع لا.
ألم تقاومهما؟
لا أتذكر.
الظاهر أن وراءك حكاية!
لا تشغل بالك؛كل ما أريده هو البلاغ عن السرقة.
عموما الأمين في طريق عودته.
ركن هاتفه على حافة المكتب،رجع بمقعده الدوار للخلف،يقلب القلم ما بين أبهامه وسبابته،يخبط على سطح أوراقه،من الواضح إنه بدأ يضيق بوجودي،وربما يرتاب في قصتي،المسألة تزداد تعقيدا،دعك من هذا الخرف،أبحث عن هاتف:لتتصل بأسرتك،لا أحفظ أرقام هواتفهم،ليس أمامك إلا العودة للشقة،أو الذهاب لمقر عملك،لتخبرهم بالموقف عن طريق البريد الإلكتروني،أو “الفيس”،بينما قعودك هكذا كمن تبكي لبنها المسكوب،تغرف بملعقتها اللبن المختلط بالطين،وتلقي به ثانية على الأرض.
لا أدري لماذا تراودني حكاية محمود عن قعودي مستسلما:
“الطريق مقفر،لا سبيل للاستغاثة،يأمره أحدهم:
هات الفلوس والتليفون.
يحيطون به،دفع الدراجة بقوة،لتقع فوق رجليّ أحدهم،فيصرخ متألما لاعنا إياه،يشغلهم فحص زميلهم بضع دقائق،فيعدو فارا،يهبط من الجسر الترابي،يتوارى بين”أكمة الهيش” المبطنة لحافة الترعة،يجرون يمينا ويسارا.”
كلما دخل أحد الغرفة،أمعن النظر فيه،لعله هو،ولكنني أكتشف أنه أحد المترقبين حضور الأمين المنتظر،صوتا البنتين ترتفع نبراتهما،تعتقد كلتاهما أنهما على صواب،يهاجمني الأمين الذي أقعد بمحاذاة مكتبه:
لم تقل لي ماذا كان بالحقيبة؟
بطاقة تأمين صحي،وسيركي تسليم أجازات.ألا يوجد أمين آخريكتب البلاغ؟
لكل واحد اختصاص يا أستاذ.
النظام رائع يا باشا.
عموما الأمين يصحب جثة للطب الشرعي،واقترب قدومه.
يستفسر أحد الحضور:
لمن الجثة يا باشا؟
زوجة بواب عمارة،حضرت للقسم منذ يومين،لكتابة محضر لزوجها الذي كان يخطط لقتلها ،كما أدعت،ولكن للأسف الأمين كان بمأمورية.
وهنا تلعثم لساني بالقول:
استأذن لمدة ساعة،سأذهب لمقر عملي المجاور لكم،وسأعود حينما يعود.
أدس ذيل قميصي في بنطالي،لا ألحظ العيون الفاحصة لشكلي المزري،دقائق وأدلف لمكتبي.
زملائي يندهشون،لا أعيرهم اهتماما،أدوس زرار تشغيل الكومبيوتر،ها هي زوجتي على الماسنجر،أخط حروفا:
سُرقت عند البحوث،لا تردوا على أحد،أنا بخير حتي الآن.
أرسلت رسالتي لأولادي جميعهم،والآن مطلوب مني شرح الموقف وتبرير هيئتي المبهدلة،لفظت كلمات محدودة،وعبارات مبتورة المعاني،وحتى لا أتهم نفسي بالخنوع والضعف غادرت الغرفة المزدحمة بالموظفين،توجهت لغرفة المحضرين،وقبل أن أنبس ببنت شفة،اعطاني الموظف أصل الصيغة التنفيذية للحكم المعلن لهيئة قضايا الدولة،غادرت الديوان متوجها للشقة،فلن أرجع لقسم الشرطة حتى لا تتناسل الأسئلة،ولا شيء تسجله الأوراق الرسمية.
عرجت إلى المقهى الذي اعتدت المكوث فيه بعض الوقت حال توتري،النادل يجلب لي قهوتي والنارجيلة،بالتأكيد يلمس مظهري البائس،ولا يعقب،الأدخنة تصنع هالة من الضباب حول وجهي،جوار الرصيف أكثر من عشر دراجات نارية،لماذا لا تكون هذه المقهى مرفأ الهجامة؟؟
خلاص يا باشا ما كان قد صار!!
ياه.. منذ الصباح واليوم غير طبيعي،الشديد القوي هو الذي دفعني للذهاب إلى ديوان مقر عملي،فاليوم راحة لي،قل عطلة أو أجازة،ولكنني بالأمس أودعت قلم المحضرين الصورة التنفيذية لحكم قضائي ضد جهة عملي،على أمل أن يعلن هيئة قضايا الدولة بالحكم.
بالطبع رفض الموظف التوقيع بالاستلام،ووعدني بإن يسلمني الحكم المعلن غدا،ومنذ تلك اللحظة يتملكني الخوف خشية ضياع الحكم.
لم أنم الليل،عاركتني الهواجس،كوابيس الضياع والتيه أرقت جفوني المتهدلة:
“ثلاثتهم يبحثون عن محمود،يلمحهم يفلتون من عقالهم،يجرب العدو،لا يقدر،تتوتد قدماه في الأرض،يعافر مقاوما السكون،يهتاج أكثر.
أيقن أنه هالك لا محالة،خوارهم يصم أذنيّه،وكأنه يملك رفاهية تسمية جوارحه،وميض البرق يسلبه الرؤية،يتطوح يمينا ويسارا،يهذي بكلمات خافتة،تصفو السماء،تنقشع الظلمة،تتناثر أشلاء الخوف،يجرب تحريك قدميه و..”
وما بين إغفاءة ويقظة علقت حقيبتي في رقبتي،وقبل خروجي من الباب احضرت زوجتي شنطة القمامة،غلبتني،فلا أستطيع التعلل بحجج واهية،فامسكتها بيدي اليمنى،وكان لزاما علي المشي بعيدا عن أتجاه موقف الميكروباس.
ألقيت الشنطة فوق تلال القمامة،وقررت الذهاب لعملي سيرا على الأقدام،منذ ما يربو عن أسبوع لم أقرأ ورد الصباح،وها هي الفرصة سانحة الآن لقراءة أوراد الأسبوع كله بأثر رجعي.
المشوار يستهلك ساعة إلا ربع،الورد طويل وتكراره سبع مرات يستغرق جهدا وتركيزا،كررت الورد ثلاث مرات،هاأنا أحاذي مركز البحوث،لا بد من الاجتهاد أكثر حتى تفرغ منه،وفي خضم الانشغال وقفت عنوة،للأسف قميصي مزقته مطواة،نسيت أن أقول لك أن بالحقيبة شهادة وفاة لأمي.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.