أرجوحة الوهج بقلم.. عصام الدين محمد أحمد
عارياً يواجه فوهات البنادق.عظام صدره الناتئة تناضل الأنصال المسنونة.يجري،يقفز،يعبر.ينتشرون- فقط- حول الكمائن المحصنة.لا شيء في يده سوى الحجر.يغلق عينه اليسرى،يشطح ساقه اليمنى مبعداً إياها عن اليسرى.يضغط على الحجر ،تتصلب مكونات الحجر،يطوح يده اليمنى عدة مرات.أياد جارحة تدفعه إلي بطن السيارة البوكس،دشابك رشاشات تتناوب ضرب كتفيه.يصرخ،يرفس.يقاوم التألم.وجوه صخرية تحيط بكاهله.عينان منطفئتان تتحسسان- وسط- الذعر – الانفلات من كماشة الحديد.يغيب عن الوعي.في الإغماءة يلج غابة الأشواك:”دفوع مدججة بالسلاح تحطم الأبواب.أمي تولول ،تتشنج.لا يفتر لسانها عن نثر النداء:ولدى.مزقوا أثوابها الفضفاضة .لفظت روحها قبل الإيلاج”تتداخل الإغماءة والأفاقة.لا يقوى علي الصمود،يقيدون يديه بالطوق الحديدي.افتقد جسده الإحساس،يعصبون عينيه.في الغرفة النازة بمسحوق الموت ينهار لسانه بالبوح:”يرن الحجر خوذته.يلعن،يتوعد.يُجن،يشرع بندقيته منتفخة الأوداج ،تنطلق مقذوفات.أتوارى خلف الساتر الصخري،،تعوق فانلتي الممزقة حركتي.تتحجر الدموع في المآقي،تعبرني سحابات الانتظار .أبحث عن الحجر الثاني أسفل قدمي،تخترق يداي الرمال،تتعثر في الصخرة الراكدة،أنفض عنها غبار السنين،أمتشقها،أتحين لحظة سكونهم عن الاضطراب.يتراشقون بالكلمات.دثار الهلع يسربلهم.أتلصص وراء الصخور/التخوم دانيا منهم.أتقدم في حذر.يعضد ساعدي التذكر:تعود أختي إلي البيت، تخلع حذاءها،تشب علي أطراف قدميها،تتلفت في كل الاتجاهات.تتوارى في غرفتها القميئة.يفتش عنها أبي،يملأ البيت زعيقاً،لا ينسى أن يشذب شواربه كلما صاح عليها.تكتم خلجاتها بالابتسام الممزوج بالسخرية،تقبض علي حفنة الأموال،تدسها في يده،يقلب أوراق العملة.يبتهج في عنفوان.لا تقدر علي الوقوف.ينهض رافعا يدها لأعلى،يشاهد ثقوباً في ثنيات الفستان أسفل أبطها،يتبدل شعرها المرسل أشواكاً مشرعة،تكتحل العينان بالسواد،يتسرسب السواد إلي الخدين،تقول في صمت رهيب:قريبا سأتهود.أعدو خلفها،ألج الغرفة قبل أن توصد الباب،تغرق في يم الدموع،لم استطع حفزها للبوح.يصفر وجهها كالكركم،يتجعد جيدها المرمري.”أصوب الحجر،يليه الثالث والرابع.يصيبهم شيطان التخبط،كمامات الأنوف تعوق حركتهم.أتسلل خلف الصخور هارباً،أهيم بين الخيام متزعزعة الانتصاب،بين بيوت الصفيح الصدئة المنثورة علي أطراف البيارات.ألمح أماً تربت علي كتف ابنها المشروخ.تهدهد وليداً يبول على كتلة أسمنتية،أسمع صرير الصدور التعبة.للمرة الثالثة يقع في أيديهم.هواء الغرفة المكيفة يلسعه،يغمض ويفتح عينيه ،أزيز التوجعات يتفاقم،يجول بناظريه في الارجاء.صور اللحي الكثة تغطي الحوائط.تتزاحم رايات النجمة السداسية في الإرجاء.آلات التعذيب تتراص في زهو.أمواج الصراخ تثقب أذنيه، يتململ في قعدته الموبوءة.يلج الضابط،ينتصب جميع من بالغرفة، يقصد مقعده ،ينظر إلي السقف،يتلو آيات الانبلاج،يقرأ الأوراق المخطوطة علي عجل،يندهش قائلا:ماذا تريد؟بصوت منتحر يقول:بيتي.مسجل بالأوراق أنك تسكن مع أبيك،يعني بالعبري لا بيت لك.يضيف:سأهبك بيتاً وحديقة.أعراض التأفف تكتنف قوله:البيت الذي وُلدت فيه.يعقب بالسماحة:يا فتى كن طموحاً،لِم لا يكون في تل الربيع؟يشرف صبر الضابط علي النفاد،ولكنه يتمالك مستحضرا صوت الجب السحيق متغزلاً:ماذا قلت يا هذا؟والمقابل؟اليسير من الأخبار.أمهلني بضعة أيام،يأمر له بحفنة من أوراق النقد،ويحذره:إذا لم تأت سنأتي بك،ولن نعدم الوسيلة.لم يستطع الاغتسال طيلة أسبوع بأكمله،الجسد يأخذ طريق الشفاء،يراقب تصرفات أبيه،يجده في الحانات يتجرع النبيذ،يضاجع النساء ،يمازح الدخلاء بمعسول الكلمات،يدعي الفتى التغافل، يترقب عودته إلي بيت الصفيح ، يختبئ خلف الخوان، الفئران اللاهية تربكه ،تصطك قدماه،يعبق بخار النبيذ الارجاء،يترنم بأغان فاحشة،يتمثل الولد الهراوة حساماً،ينظر إليه بعيون تسح حناناً،يبادره بالسؤال الثمل:أأصابك الهوس؟يختصر الحروف:نعم.يقترب من مخبئه،يتجاهل الهراوة المنتفضة،يهزأ في مرارة مقراً:تبا لعقلك المعتوه!يتهاوى مطرحه،متكئا علي خزانة الكراكيب،يعلن الصغير:بعتنا بثمن بخس،قنينة خمر وفرج امرأة.يبتر الحوار بالادعاء:أف لأخلاق الصبيان.سرعان ما غادر ليتجول هو وكاظم علي شط يافا القديم،الميناء الحديث يحتل الشاطئ،الفنادق والمطاعم ترسم خريطة المدينة،تندس في الأحشاءيدخلان من باب،دالفين إلي ثان،ليتواريا خلف ثالث،يهبطان من سلم،إلي دهليز،إلي سلم آخر،يفضي لسرداب مظلم،ينتهي بغرفة فسيحة مليئة بالصناديق الخشبية.يأبى ولد صغير التراجع،يقبلون يديه ليتقهقر عن عزمه،يبكي بكاء لا زيف فيه، يقول أحد الشباب المتقد نشاطاً:دعوه لرغبته.يرد عجوز:لم يحن الدور عليه.يتدخل رجل ناصحاً:لا يقوى علي حمل السلاح.يزف العجوز البشري بأن الدور حل علي كاظم،ينشرون خريطة،يتهامسون بعبارات جادة،يهرع كاظم للحمام ليغتسل،يبتهل بالغناء الشجي،يترنم بالنخيل وكروم الزيتون ،يحلق ذقنه،يمشط شعره،يتعطر بماء الورد،يغازل وجهه في المرآه،يتحسس موضع قبلة ، يكبس أذنيه بالأقطان،يرتدي بدلة نسيجها ديناميت،ينصح الهِرم:لا وقت للدلع.يصيح آمراً إياه:قم.في المساء يجاهد دخول الدار خلسة.تتراخى عضلاته،يعجز هيكله الهش عن حمله،فيتساقط مرتطما بالخوان جاف الحواف،يُشج جبينه.مع بزوغ الفجريجتث الحديد المهترئ من الحوائط،يرتق الفرجات بالخشب.ينظر لبنات ساحة المخيم.تنطن الحبل،تلعبن لعبة الاحتلال؛تخترن أشدهن بنية لتحرس دائرة الأرض الجيرية،وأضعفهن لتمثل دور المعتدي.تنقسم المتفرجات إلي فريقين،فريق يوآزر الضعيفة بمسدسات الخشب وقنابل الأعشاب،وفريق ينعي حظ قاطنة الدائرة ويهبها أوراق السراب.يعود إلي ثكنته ،جدرها منثقبة كالغربال،ترسم أشعة الشمس المنبثقة خطوطاً مترجرجة،مشرشرة،منسجمة مع تكوينات الثقوب المتباينة.رائحة بقايا الأشياء تزكم الأنوف،يركن سيف ثلم أسفل البساط القديم،وفوق الحبل الشاطر سماء الصالة جلباب أمه الذي استشهدت فيه.يحظره التجول،يقعد متصوراً:”ترفل في صحبة السمت الحاد،تطرح الحجاب الأبيض متعدد الطبقات،تحتضن عروساً من البلاستيك،تخاطبها:أمازلت جوعانة؟تعري الثدي الجاف،تقرب فم العروس الشمعي،ترتسم الأبتسامة الآلية علي وجهها،تناجيها:أترفضين اللبن؟ترفع العروس لتجاور أذنها اليمنى ثم اليسرى،تنغم الحروف:لا أسمعك.تضغط علي جسدها،تنكمش،تنظر بخفوت قائلة:قم لتتزوج العروس.يتأمل عينيها النجلاوين،يتتبع تقوس شفتيها الرائق،يقطع التأمل بالاستفسار:والمهر؟تدع العروس تقع وتوجز:أن تهزم الزمن الجديد.يقول وكأنه يحدث نفسه:أضحى التهويد مسعى الكبراء.لحظة سكوت مرتجف،يستطرد:الفرصة مواتية لانزلاقي في زمرتهم.تنثني لتقبض علي عروسها،تخربشها بأظافر صلدة،تقتلع شعرها المنسول،تقذفها بعيدا،تتلسن تاركة إياه:ابحث لك عن عروس.”ما كاد المشهد يغادره حتى تناوشته الاستفهامات:أيرضى بالعرض السخي؟أيرفض وليكن ما يكون؟أيبقى في بيت أبيه أسفل الأنقاض؟أيجاهد لإقناع أخته بالنكوص عن عزمها؟”يلتهم فيافي وشعاب نفسه التماساً للراحة،ومرجل ذهنه يغلي:يقول العجوز:لا تحرر دون دماء.يقول أبي:في الدماء الفناء.يقول الحبر:من رغب عنا فليس منا.ينظر قبة الصخرة،يشاهدها تبكي زمناً مظلوماً بأهله،تذرف شلالات الدمع المنهار.تبدلت مياه النهر المقدس بولاً حمضيا.يتوكأ على نفسه المضعضعة،يغادر البيت والهواجس.فتاة تهرع من بعيد،تقترب منه.تضع يدها في يده.أطفال خلفهم من يافا وغزة وأريحا والقدس وبيت لحم ورام الله يلبسون الكمامات.تنتفخ جيوبهم بالحجارة،تتزين أياديهم بالنبال،تسمق القلوب الصغيرة.تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.