التذوق الجمالي والقراءة الأولى بقلم.. أيمن دراوشة
نبدأ قراءتنا لأي نص أدبي بتذوق نتاجه الكلي الذي هو أشبه بتداخلات ألوان الفنان، وهذه القراءة الأولى هي من توجهنا لقبول الإبداع من إيقاعه تارة، ومن بنيته الأسلوبية وشكله التعبيري تارة أخرى.هذا الانطباع الذي تحدثنا عنه سابقًا، لا بد أن يختلف في قراءتنا الثانية، فربما يثير انتباهنا شيء كالنغمة الموسيقية إذا كان النص شعرًا، لكن سينقلب إلى شيء آخر أثناء قراءتنا الثانية ربما أن هذه النغمات الموسيقية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمغزى العام للنص بأكمله.هذا يشبه إعادتنا لقراءة رواية ما، أو مشاهدتنا لفلم سينمائي، فالمشاهدة الأولى للفلم تختلف في المشاهدة الثانية، وهذا يعتمد على خبرة القارئ أو المشاهد حيث يكتشف جماليات تكون غابت عن ذهنه في المشاهدة أو القراءة الأولى.لهذا فالاحتفال بالذوق والافتتان بالأثر الجمالي لا يمكن أن يتم من خلال مرورنا العابر للنص فهناك علاقات لغوية تتداخل ودلالات تستقرض من سواها.وتذوق الجمال بلوحة فنية لا يكون فقط بلوحة زهرة أو أشجار تشد انتباهنا فقط، فهناك لوحات بريشة فنانين قدر رسمت لنا مشاهد مأساوية، كطفل يبكي مثلا أو نيران تلتهمنا …صحيح أنَّ لكل عصر إبداعه، ولقارئيه تذوق جمالي خاص ومختلف عن العصور السابقة، إلا أنَّ مسألة التذوق تبقى توقا جماليا وإن اختلفت أذواق القراء، وتغير هذا الذوق يكون نتيجة تغير تحولات الأداء الفني حسب المتغيرات الثقافية والحضارية، ففن المقامات أو الموشحات على سبيل المثال لا الحصر من جماليات إبداع العصور التي سبقتنا ولغاية الآن نشيد بتلك الأنواع من الأدب، لكن حتمية التطور والتقدم جعلت هذين الفنين ينقرضان بحيث لم يعد أحد من الأدباء ينظم فيهما.إن الصور الفنية المتوارثة إذا ما بقيت على حالها تظل بعيدة عن دائرة الأداء الفني الجيد مهما اختلفت مسمياتها، تلك الصور التي سيطرت على أدائنا كون فهمنا لتلك الصور فهمًا واحدًا لا يتعدى التشبيه أو الاستعارة … وهذا الركام من الفن التصويري أفقر النص وأفقده روحه بحيث لا تنمو دلالاتها بالنفس، لتتحول إلى مصفوفات تراوح مكانها في علبة مغلقة تحوي صورا تكرارية مبتذلة أضرت النص الأدبي وسلبته ثراءه الحقيقي.ولا نعني بذلك كل تشبيه أو كل استعارة تم تكرارها بصورة كلية، فربما كان بتكرارها كسرًا للتقاليد الموروثة فربما تتكرر أداة التشبيه ” كأنَّ” واستخدام هذه الأداة هائل جدا في موسوعة الشعر العربي، وكذلك في عصرنا الآن، لكن الشاعر أو الأديب المبدع هو من يتمكن من إلصاق جمالية الأداء مع البث الوجداني بحيث يكون التكرار كتداع تحاوري ينتج من معاناة كاتبها بعيدًا عن الجمود أو السكون بحركة مفعمة بالحسية، فالتشكيل بالأداء الفني هنا لا يرتكز على نمطية التصوير التقليدي ولنلاحظ ذلك في قول قيس بن الملوح الذي لم يكرر أداة التشبيه “كأن” اعتباطًا كما كان يفعل الشعراء الذين سبقوا عصره.
كأن فؤادي في مخالب طائر
إذا ذكرت ليلى يشد به قبضـــــا
كأن فجاج الأرض حلقـة خاتم
عليَّ فما تزداد طولًا ولا عرضا.
التعليقات مغلقة.