نبضات آفلة…
بقلم عصام الدين محمد أحمد
نبضات آفلة
صرخت بصوتها المرتعب:
أمك وقعت،غابت عن الوعي.
اتًصلي بالأسعاف ، لا تتأخري.
أنهض مفزوعاً مضطرباً؛ لا أعرف – تماما- ما الذي سيحدث؟
الشيء الوحيد الواثق من حدوثه هو سفري للصعيد في التو.
بدلت ملابسي؛ أقصد لبست سروالاً وقميصاً.
ميعاد تحركي مرتهن بتوقيت الحافلات والقطارات.
أسرعت الخطى وكأنني سأسافر عدواً.
في غضون نصف ساعة جرجرت أقدامي إلى محطة الحافلات الكائن بشارع مراد،لا مقاعد شاغرة في الرحلة التي ستتحرك بعد دقائق،وهناك أماكن بالرحلة القادمة،ساعتان ونصف كاملتان متبقيتان:
لأجرب القطارات، قصدت المحطة، أجرى، أعبر السيارات المتداخلة، أتلوى وأتلولب حول السيارات فجائية التوقف.
تواطأ الشارع لتعطيلي.
أقترب من منافذ حجز التذاكر، مئات من البشر يتمترسون أمام النوافذ، يتكاثرون كالديدان.
لا أحد يتحرك.
ودون تفكير توجهت للمترو، هبطت بالمنيب، تاهت المعالم، كثر سؤالي عن محطة الميكروباص، وقبيل ولوجها وجدت حافلة متجهة لسوهاج، ستتحرك بعد دقائق،يرن الهاتف:
كيف حالك يا حاجة؟
الحمد لله،”أنا خفيت وبلاش تيجي”.
لماذا؟
مصاريف يا بني ، وأنت ظروفك سيئة.
سأخذ منكِ مصاريف السفر كالعادة.
شعرت أن صوتها متخم بالوجع، تتحرك الحافلة.
تهاجمني الهواجس:
“ماذا ستفعل لووجدت حالتها متأخرة، وتعوزها العناية الفائقة؟
أمعك ما يكفي لإيداعها العناية ؟
ما معك قد يكفي كمقدم دخول ، ويفرجها المولى بعد ذلك.
أمطلوب مني التقاعس وتركها هكذا للأيادي الغريبة تعبث بها؟”
السكة تبعد أكثر وأكثر.
تترنح الحافلة في سيرها، فالطريق تجرع مئات زجاجات الفودكا، فأصابته النتوءات والبثور.
يعلن السائق قائمة الممنوعات، كل شيء ممنوع إلا التنفس.
أنظر للصحراء؛ ظلام يطمسه ظلام، يتخلله ضوء لمبات شاحب هنا وهناك، أحاديث الركاب تتلاشى:
“أمست لياليك معاناة، تتقلبين علي الفراش.
أحس بكل نبضاتك الهاربة، تتأوهين في سرك حتى لا أسمعك، تصرخين في جوفك.
أمبول مسكن عقب الآخر، تتحايلين على الليل حتى ينته.
وكأن في النهار راحة وهدوء!”
لا أدري كيف أتعامل مع هذا الليل الطويل؟
آه يا أمي أدركت الآن أن الليل طويل!
ألا يمكن لي النوم؟
مجرد سًنة من النوم!
لا أظن أن الكرى سيخط طريقاً لعينيك!
حاول؛ مجرد محاولة، لن تخسر شيئا.
أتكأ على مسند الظهر، واضعا يدي اليمنى ما بينه وبين مؤخرة رأسي.
لا شيء سوى اليقظة والتوهان:
“خذ هذه الفلوس.
لماذا يا حاجة؟
لشراء أدوية لزوجتك؛ تعدمني لو رفضت.
أنت الأحق بالعلاج.
والله تعبني الدواء،وزهقت،وبطلته.
يا أمي لو امتنعت عن أدوية السيولة والضغط لمتِ.
ومن قال لك أنني “عايشة”.
من السرير لدورة المياه.
أين الحياة؟
وجودك بالدنيا وما فيها.
كلام يا بني.”
اهتزازات عنيفة ومتلاحقة.
دفعني المقعد لأعلى وللأمام وكأنني أرجوحة.
تزجر الأصوات السائق، والذى بدوره يلعن الطريق.
أتذكر زيارتك المفاجئة لعيادة ابن أخيك المريض:
“أقول مدعيا الاستفهام:
لم تسافري للصعيد إلا منذ أسبوع، فلماذا العودة سريعا؟
تهمسين:
أيسبب حضوري أزعاجا لك؟
كاد الخجل أن يخنقني:
لا أحد يتضرر من وجودك، فأنت من استعجلت السفرمنذ أسبوع ، ومن يراك وأنت تجهزين الحقائب يعتقد أنك قررت عدم العودة ثانية.
بالطبع بعض ما قالته حينئذاصحيح، ولكنها تخفى الكثير من الأسرار.
تتخيل المسكينة أنني لا أعلم ماتضمره:
طوال غيابي لا أحد يتحدث معها، وزوجتي تمكث بالسوق ساعتان أو ثلاث.
بالطبع ستشعر أنها منبوذة!
لم تتذمر أو تتمرد.
تخشى غضبك!
اعترف أنك لم تراع هرمها وحاجتها للمعاملة الإنسانية.”
يسافر بك الليل، تتعجل إعلان الزمان سحقه للمكان!
ما أغزر الدموع المحبوسة في صدرك!
منذ موت أبيك لم تفكر في الموت، لم تره منذ خمسة وعشرين عاماً.
يومها هضمك الحزن يا حزينة؛ نخل عظامك، هد بناءك، أركس قلبك بين طيات اليأس.
افترشت الصالة، ارتوت البسيطة بدموعك، وكأن الحب انهيار وذوبان!
سفهت عواطفك يا عزيزة:
ما بال أمي تنتحر؟
ما بالها تنتحب وكأن في نحيبها النجاة.
توجعت و…
لم تلتفت لأفول عافيتها.
والآن تسافر لتلحدها التراب.
غليظ قلبك يا متعوس!
أخيرا وصلت الحافلة.
تتمدد فوق الفراش،شعرها الأبيض المنكوش يفترش الوسادة.
أهينم:
والله كبرت يا أمي.
تنظر إلي في وهن:
متى جئت؟
ترددات الكومبيوتر لا تتحرك نهائيا.
أصيح مناديا الطبيبة،تكشف على صدرها المنهك.
أماراتها جامدة لا تشي بشيء،تخط في ورقة اسم حقنة،أقبض على الورقة بيد مرتعشة.
أعدو،أخرج من دهليز،لأدلف لآخر،ضاعت أمامي معالم المكان:
كيف يتسنى لي الخروج من المستشفى ؟
دوما تواجهني الحوائط والسلالم المغلقة بحواجز الحديد،أكرر بخفوت:
حتما ستموت قبل أن تحضر الدواء.
زحام ما بعده زحام.
أخيرا وبعد مرور أكثر من ساعة،أجد بدني المتعب أمام الباب.
دقائق وأعود بالدواء،دسست في يد أحد موظفي الأمن خمسين جنيها،وطلبت منه مرافقتي للعنبر.
مازالت في غفوتها.
تغرز الطبيبة سن الأبرة في الجسد المسجى.
أخيرا تتحرك،وتطلب دخول دورة المياه.
أحاول هز جسدها،تحريكه،لا أقدر.
تقضي حاجتها،تتبرم من وضعها المزري،أقول:
لا تشغلي بالك،سأنظفك،وسأطلب من الطبيبة أن تكتب لك خروجا،لنذهب لمشفى خاص.
تدرك- تماما- أنك تكذب!
ماذا كانت ستفعل لو كنت أنت مكانها؟
“بالفعل لم تنم ليلها، أخبروها أنك بالمستشفى،صممت أن تركب الليل والظلام سفرا للقاهرة، لا زمتك طوال مكوثك.
أودعتك قروشها كلها، يكتنفها القلق.
مائة ألف خناقة مع الممرضين، لم تغادر العناية الفائقة إلا برفقتك.”
أنتهيت من تنظيفها، رائحتها طيبة، أسأل:
أتودين شيئا؟
يسيطر عليها الهزال، تعقب:
خلصت متاعبي.
أدعها حتى تستريح قليلا؛ حيث أوعزت لي الطبيبة أن وجودي يزعجها.
أتمشى في الطرقات.
ياه..ياه..الزمن قاس يا حاجة.
ربما تموت!
حتما ستموت!
حتما ستموت أنت فوق فراش مشفى،ولن يلقنك أحد- أي أحد- الشهادتين.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.