في جهاد الصحابة.. بقلم / مجدي سـالم الحلقة/ 826.. الهجرة النبوية في فكر الشيخ محمد الغزالي.. -2
في جهاد الصحابة.. بقلم / مجدي سـالم
الحلقة/ 826.. الهجرة النبوية في فكر الشيخ محمد الغزالي.. -2
اخترت لكم.. عن رابطة علماء أهل السنة.. نكمل..
ثالثًا: إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب:
هكذا يعبر الشيخ “إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب”.. وكان المنتظر أن يقول “إيمان بالغيب وثقة بالمستقبل”.. لكنه عبر مع المستقبل بالإيمان ليرفع الثقة بالمستقبل إلى درجة العقيدة والإيمان بالغيب.
فلن تكتمل حقيقة الدين في قلب إلا إذا كان الإيمان فيه بالغيب قسيم الإيمان بالحاضر.. ولا يصح تدين ما إلا إذا كان الإنسان مشدود الأواصر إلى ما عند الله.. مثلما يتعلق بما يرى ويسمع في هذه الدنيا.. فالمجاهد مثلاً يقاتل من أجل النصر للعقيدة أو الشهادة لنفسه.. لكن النصر عنده غيب خصوصًا إذا وهنت الوسيلة وقل العون وترادفت العوائق.. بيد أن هذا النصر ينبع من الإيمان بالله.. فهو يمضي في طريقه المر واثقًا من النتيجة الأخيرة..
إن غيره يستبعدها أو يرتاب فيها أما هو فعقيدته أن اختلاف الليل والنهار يقربه منها وإن طال المدى؛ لأن الله حقَّ على نفسه عون الموحدين ونصر المؤمنين.. فلماذا الخوف من وعثاء الطريق وضراوة الخصوم.. ولِمَ الشك في وعد الله القريب أو البعيد؟!
إن الذي يقطع تذكرة للسفر لمكان ما لا يخامره شك في أن المكان موجود.. وأن القطار ذاهب إليه.. ولقد كانت ثقة المهاجرين بالغيب مثل ثقة غيرهم بالمحسوس.. وعندما يرتفع الإيمان بالغيب إلى هذه القمة فإن أصحابه لا محالة منتصرون.. ومكتسحون ما يضعه المبطلون أمامهم من عقبات ومعطلات.. والمستقبل الذي تنتصر فيه الرسالات إما قريب وإما بعيد: فأما القريب ففي الدنيا على أرض الميدان.. وأما البعيد فعند الله في الآخرة حينما تُجزى كل نفس بما كسبت.. والمهاجرون الأوائل لم تنقصهم إيمان بمستقبل أو ثقة بغيب.. إنما نهضوا بحقوق الدين الذي اعتنقوه.. وثبتوا على صراطه المستقيم على الرغم من تعدد العقبات وكثرة الفتن.. من أجل ذلك هاجروا لمَّا اقتضاهم الأمر أن يهاجروا.. وبذلوا النفس والنفيس في سبيل عقيدتهم..
ومع أن الله تعالى وعد المؤمنين أن رسالتهم ستستقر.. وأن رايتهم ستعلو.. وأن الكفر لا محالة زاهق.. إلا أنه علق أفئدتهم بالمستقبل البعيد وهو الدار الآخرة: “فإما نذهبنَّ بك فإنا منهم منتقمون. أو نُريَنَّك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون. فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم. وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون” (الزخرف 41- 44) ومن هنا لا يعتري النفسَ مللٌ.. ولا الجسم كلل؛ لأن أشواقه ممتدة إلى المستقبل البعيد.. وآماله قد طارت لتحط في أفراح الآخرة عند رب العالمين.
فليس شرطًا أن يرى المرء ثمرة جهاده والتمكين لدينه وهو حي.. بل ربما يطويه الموت ولم يعرف بعدُ نتيجة الصراع بين الهدى والضلال.. وهذا كثير الوقوع.. لكن وعد الله لا يتخلف: “فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون” فيكون هذا المرء جسرًا تعبر عليه الأفكار والمبادئ إلى جيل يرى نصرتها والتمكين لها.
والخطة المثلى أن يؤدي المرء واجبه المجرد دون استعجال لنتائج المعركة المحتدمة بين الحق والباطل؛ لأن الله قد تولاها بذاته العلية.. وفي إطار هذا الإيمان العميق لبى المسلمون نداء الهجرة عندما طولبوا بها.. واستجابوا لنداء الله ورسوله غير خائفين ولا جازعين(15)….
رابعًا: فكرة لا رحلة:
فالهجرة في فكر الشيخ ليست رحلة ولا عملاً ترفيهيًا.. ولم تكرَّم الهجرة لكونها سفرًا فحسب.. فما أكثر المسافرين قديمًا وحديثًا بين مكة والمدينة.
إن الشيء الواحد قد يكون عملاً مضنيًا أو لعبًا مريحًا مسليًا.. فالمظهر والشكل لا يتغير.. لكن الذي يتغير هي البواعث والجوهر والملابسات.. فصيد السمك رياضة مرحة يلهو بها بعض المترفين الناعمين.. بينما هو عند أناس آخرين حرفة يرتزقون منها مع الكدح والمكابدة.. والرحلة من قطر إلى قطر قد تكون للتنعم والاسترواح.. وقد تكون مشيًا في مناكب الأرض لتحصيل علم.. أو جمع رزق.. أو فرارًا من شر محظور إلى خير منظور..
وهكذا كانت الهجرة.. خطواتٌ يتحرك بها القلب المؤمن في الحياة.. فتتحرك في ركابها الثقة الغالية والتضحية النبيلة.. إنها طريق الأبطال تزدحم بالفدائيين من حملة العقائد.. يتركون البلد الذي اضطهد دينهم فيه ليلتمسوا في مهجرهم مأمنًا لعقيدتهم ومتنفسًا لدينهم.. ويقيموا فيه مجتمعا يحتضن الشعائر والشرائع.
وفي الهجرة نفسها خرج رجل إلى المدينة من أجل عشيقة يهواها.. وشتان بين المهاجرين لعقيدتهم ودينهم وبين من يخطو خطوات الشهوة الصغيرة تتحرك بصاحبها فلا تفرق بينها وبين خطوات الدابة التي حملته.. ورب قاعد في بلده أشرف نفسًا من هذا المهاجر التافه(16)….
.. نكمل غدا إن شاء الله..
التعليقات مغلقة.