مجون حافلة بقلم.عصام الدين محمد احمد
أعدو بأقصى سرعة مصطدما بالناس المزدحم بهم جانب الطريق، ألوح بكلتا يديّ، بل بجسدي كله عسى أن يراهما سائق الحافلة، فيهدئ من سرعتها.
طال المشهد، لا يفتر عزمي، أحاول اللحاق بالأتوبيس، دون إرادة مني ارتويت بماء عرقي الحمضي قبل اقترابي من الباب الخلفي.
مضى وقت عصيب قبل أن يخفض السائق من سرعة قيادته متخطيا المحطة المخصصة للتوقف.
بحركة بهلوانية تشعلقت بالباب الخلفي، كبحت جماح كوامن الغضب المأسورة داخلي، وابتلعت – دون مضغ-إهانات الشباب المحشورين بالباب، فلا هم بالداخل وأيضا ليسوا بالخارج، تبرموا وزموا شفاههم لاعنين المجتمع والأدب المتدني، وذلك لأن حذائي تقاتل مع أقدامهم لتطأ قدماي مكانا مستقرا بين أقدامهم، وقذفت بجسدي الذي لا أسيطر عليه ، ليشق ممرا، أو قل – إن صح التعبير- لينسلخ من الديناصورات البشرية الرهيبة المتكومة في جوف الحافلة بالغ الضيق، وكانت ملحمة بطولية لا تقل معاناتها عن حرب البسوس، وأضحت مأساة الاحتكاك مع هذا الطوفان المنجرف والانفلات منه حقيقة كونية لا تقبل الجدل.
فقد تنغرس ركبتك في جسد امرأة ، أو تعيث يدك الفساد في ثدي فتاة ، أو تركلك أقدام رجل ليث ، أو تستقر قي صدرك قبضات مقاومة لعنفوان هذه الأفيال المذعورة.
وظفرت بعد أصابتي بكدمات مبرحة الألم بمساحة من الفراغ استقرت فيها بقية بدني، ونجوت من ضربة كتف – غير قانوني- للانحناء لتدليك ساقي من كدمة عنيفة.
مال المحصل يشدوموبخا الركاب ويحثهم للتحرك إلى الأمام، فالسيارة غير مزدحمة، بل فارغة وخاصة الجزء الأمامي، ويختتم بيانه بأن كل الناس يريدون العودة لبيوتهم، وأنها مسألة دقائق لا غير.
تتقابل الأمواج البشرية الهائجة مولدة الشرر.
بخطوة مباغتة حشرت جسدي بين شابين مفتولي العضلات ممسكا بالقائم الحديدي المثبت بسقف العربة، من هول المفاجأة أفسحا لي مكانا.
قبضت على حافة المقعد المجاور وبذلك حصنت هيكلي من الزحف الكاسح، يتربع فوق المقعد امرأتان ، تلبسان بلوزتين متطابقتين، ألوانهما مزركشة وزاهية ومتداخلة، إحداهما شعرها قصير مجعد والأخرى شعرها طويل مسترسل.
مع موجات متلاحقة من المد والجزر عززت إحتلالي لموضعي وتداخلت يداي في نسيج الحافة الحديدية بأعلى المقعد.
بحكم الوجود القصري استمعت أذناي لحوار الفتاتين.همست ذات الشعر المجعد- بفعل يد مدربة- بصوت مسموع:
وظيفة السكرتيرة الخاصة تسيجها تنازلات جمة، يأست من أقناع خطيبي بقبول تأخري في العمل بصدر رحب، كل محاولاتي باءت بالفشل.
أمعقول دفن جمالي البهي في لحد الزواج العقيم؟
علقت صاحبة الشعر المسترسل الناعم:
ارفضي هذا الخطيب المتغطرس، فليحمد ربه على هذه المفاتن المشرقة، تصدي لرغباته غير السوية ، وإن لم يرضخ لتصرفاتك فأتركيه .
لكزة قوية ألهبت ظهري وأفاقتني عن متابعتي للحديث، نظرت خلفي مستوضحا الأمر، فصدمتني الأعداد الهائلة التي تتصارع بغية الوصول إلى باب النزول، كتمت آلامي، وأخيرا فرغ عدد كبير من الركاب، تنفس جسدي الصعداء،فقد استرد طبيعته بعد إنكماش طال، واستمتع بحالته الجديدة تمهيدا للثورات المحتملة، وعدت بعيني أتابع الملهاة.
ذات الشعر المكرمش والبشرة المنغمسة في دلو البودرة تسر لصديقتها:
بالأمس القريب أهداني صاحب الشركة زجاجة مستوردة لمشروب لذيذ، يناغم الأعصاب، ويسدل ستار الجنون، ويئد القلق، ويفتك بالتوتر، ويُشعر بالخدر الناعم، ووعدني بزيادة راتبي.
وتساءلت رفيقتها:
هل أدع مستقبلي يهرب دون مقابل مجز؟
حتى الآن لم يدفع لي خطيبي سوى أوراق المثابرة غير البنكية.
وهنا قاطعتها قرينتها لتحسم النقاش:
عجبت للشباب الذين لا يملكون قوت يومهم، ويطمعون في الزواج.
قبل أن تسلبني الحوادث، نظرت خلفي لألمح وجها، هذه الملامح مألوفة، نفس العيون وذات الشارب، أنه هو..هو..محمد..هممت أن أعانقه، ولكنني تذكرت العواقب ، فتراجعت وتناسيت وجوده، ومضى من الوقت أرذله، وحانت ساعة الولادة المتعثرة، ولم تستطع الحافلة أن تلدني ولادة طبيعية، ومن الضروري إجراء جراحة قيصرية.
فكما كان ولوجي غير طبيعي فأيضا هروبي منها.
غادرت الحافلة عاقدا العزم على عدم تكرار التجربة، ولكنني أعلم أنني كاذب!
تبعني محمد،عانقته بسنين العمر المنقضي، وإحتضنته بذكريات زمالة الجامعة ، وتحدثنا طويلا عن الواقع والمستقبل وفشلنا في الحصول على عمل يتفق والمؤهل الجامعي، فالأعمال المتاحة لا تمت للمؤهلات بأدنى صلة، وخلصنا إلى نتيجة وحيدة وهي لا وجود للشباب المؤهل في عالم العجزة، وإفترقنا على أمل اللقاء ثانية وثالثة.
دلفت مسرعا من باب المصلحة، التي رشحتني إليها القوى العاملة لكي أضطلع بمهام وظيفتي ألا وهي التوقيع الدؤوب في دفتر الحضور والانصراف، وهذا ليس بالشيء اليسير بل هو دستور العمل المقدس، وبعد هذه الواجبات غير المجدية أركن جانبا لأخط حروفا غير مترابطة في الأوراق المبعثرة؛ أسرد حكايات، وتزاحمها قصص وخواطر وأرقام، أقيم سوقا لبضاعة راكدة.
وقبل أن يحطمني الضجر أفر إلى الأزقة والدروب بلا هدف..وفي العيون- كل العيون- أصافح أنا…كثرت الخطوات، بعدت المسافات، ها أنا أركن فوق الرصيف منتظرا الحافلة.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.