بأي ذنب قُتل؟
بقلم عصام الدين محمد أحمد
يصفع الليل النهار، فيهرب الأخير مضمداً جراحه، لاعقا دماءه الصفراء الشاحبة.
الرياح تحف “شواشي” الذرة، والتي ـ سرعان ـ ما تصفر صفيراً يبعث الخوف من مرقده.
قدماه تنحتان طريقهما من مدق لآخر، وزعابيب الهلع تنخل جسده، يشخب زفيره ويرتج حلقه.
أيتراجع؟
احترقت سفينته، لامجال للعودة.
المسافة التي قطعها لم تكن طويلة، من السهل ركوبها ثانية.
ولكن ماذا سيشيع الناس؟!
بالطبع تطاردك فضة :
ستجدها منكفئة خلف الباب مترقبة عودتك ، لتشق الجلباب الساكن جسدها منذ سنة وتلطم خديها المتورمين.
وتعلن الحزن الذي هضمها ولم يبق منها سوى الإطلال.
يجاهد الوساوس، الخطوات أمست أكثر صلابة.
نعيق بومة يكتنف السكون، يهزم تخوم الصمت.
تنطفئ شهب السماء، النجوم تتوارى.
ها هوا فوق القنطرة ينتظر، تستقر عجيزته فوق الحافة، المسامير التي تربط طرفي ماسورة مياه الشرب والمحاذية للقنطرة تسرب الخيوط ، والتي ترتطم بسفح المرة.
ولا يدري لماذا كنيت هذه الترعة بالمرة !
خرير المياه يضفي علي الجو نغماً موحشاً .
تهاجمه المشاهد:
“نسيم الهواء يشاغي أوراق الجميز، أسفلها عانق صدري قهقهاتك البريئة، وفي حضنها لمست عذرية أمانيك.
أطعمتك ثمارها الناضجة، ونفضت يداي الديدان التي تتغذى بقلوب الجميز.
حفرت سيجة (سبعاوية)، واستأسدت كلابي، والتهمت جراءك.
رأفت بحالك يا صغيري ، دفعتك لتحش كلابي؛ لتفز بالدور.
صنعت المطبات، ونحتّ أنت السراديب لأسراب النمل، نثرت بللورات السكر، زمجرت جيوش النمل، وفجأة دهك حجر الصوان الفرق الجرارة.
ومع الغروب أنغرست المطواة فى سوتك.
تجمعت القرية.
يغرق فى دمائه على شط الترعة.
لا يملك الناس سوى البكاء والبلاهة.”
يحوقل ولكن الصور تترى :
“(فضة) في المندرة تؤجل دموعها ، باعت الحلق والكردان والخلخال.
حفرت وجهها شعاب الأسى، وفوق حوائط الدار علقت جلبابه المضمخ بالدم، صورته العتيقة في صدرها، من حلمتي ثدييها ترضعها اللبن.
وأول أمس حينما هرب الليل مخلفاً هزيعه الأخير تهتهت بكلام من الشرق والغرب، لا رابط بين وحداته إلا الهذيان.
همسها يمس شغاف قلبي، يمتزج بتكويني.”
هكذا سلبته الشوارد من عبق التوجس.
نهض كاهله المتثاقل، تربع مستنداً علي جذع الشجرة.
أفراد قليلون يعبرون القنطرة، فى سريرتهم يتهمونه بالتخاذل.
لا يلتفت إليهم، فالبال مشغول بهيئة من سيأتي؟!
آه…. ما الذي دفعه للأخذ بمشورتها؟
لم يسعفه المنطق للرد عليها حينما قالت:
ربنا قال: النفس بالنفس.
بناته تجلسن في دائرة مركزها الغائب، يفردن صرة الكلام، يلعن الجبن والعار، يؤلهن الابن ، أنفاسهن سهام مسمومة تتراشق في مسامه، وبعود الحطب تخط فُضة علي القاع فلسفتها برموز وطلاسم:
القانون ماربى معي.
ترد الكبرى:
مالحس بريقه الحصبة التي كادت تفتك به طفلاً
وتهذي الصغرى بأقوالهما.
هنا تصيح (فضة):
لا أريد إلا ابني ، خذوا البيت والغيط وهاتوا لي ولدي.
ابن محروس كان يقصد قتله أولا يقصد فهذا غير مهم.
تنتحب :
“ياضي العين” لحمهم كلهم لايساوي جراماً من لحمك.
الليل ينشر سدوله، رداء الرياح يفترش الفراغ، تمرق قلابات الرمال والزلط، تنام بيوت القرية ، بعد أن تستنفد عنفوانها في لف ساقية الثرثرة.
تهاجمه الشوارد:
“جحظت عيناها ، متشنجة قالت:
اكر بهذا المال من يغسل العار فالمقبور ابن محروس شديد وعوده فتي وأنت شيخ عجوز.
وقلبك أرق من ورقة السيجارة اللف.
ولملك الموت أتباع يسرقون الأرواح بالذهب.”
أسدل الليل العماء.
يعود والخيبة تكتنفه؛ فلم يأت المُكترًى.
يترنح فوق سرير الجريد، يغفو متقلقلاً، فُضة وبناتها يقيدن رجليه بحبل غليظ، تكممن فمه بقطعة صوف خشن.
فُضة تحز الزور بنصل حاد.
يجرشن عظامه بالمدقة.
تغرفن الأشلاء فى المقاطف، ينقلن نثار اللحم للمقبرة المحفورة على عجل.
تمسح فضة وجهها بخرق بالية، تبح نبراتها :
س..و..ا..د…ي..
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.