هذيان الشك قصة قصيرة بقلم / عصام الدين محمد أحمد
تجري.
ألهث خلفها.
تصطدم بالمارة.
وأنا كذلك.
يضيق الشارع، المرور- أيضا- يتعثر.
فجأة يفرغ الطريق من الناس، أتنفس هواء الوحشة.
بيت متهدل العتبات يغلق السبيل.
رجل عجوز يحتل مدخله؛ شعره أبيض متسخ، يرسله للخلف، الأتربة تلصق وحداته، يتسول مُلحاً، يناجي أطيافاً، وما بين لحظة وأخرى يضع يده في جيبه، لا أحد في الصورة غير أربعتنا، وكأنه أراد أن يوحي لنا بوجود أناس غير مرئيين .
نضطر للوقوف، أرتد للخلف.
لكنها مازالت شاخصة مطرحها، أشدها، تأبى أن تتزحزح، أقترب لأستنبط ما يدور في ذهنها.
نتانة البيت تنشر عفناً مدفوناً منذ عقود.
يقول الكهل:
يمكنك العبور إلي نصف الشارع الآخر بالصعود والمرور من باب الدور الثاني، والهبوط بالسلم في الضفة الثانية.
أعقب مأزوما:
أخيال هذا أم واقع؟
أنتراجع وننحرف لطريق آخر؟
ترفض مجرد التفكير في هذا الاقتراح، تشيح بوجهها بعيدا.
أحمل الولد فوق يديّ، أسنده علي صدري، أربت ظهره ببطن يدي اليمنى، مازالت تجادل الهِرم، تشتد حينا ، وتلين كثيراً.
لماذا استجبت لرغبتها؟
لماذا تبعتها لمقام هذا الولي؟
من أخبرك بهذا الولي؟
ألم تخبرك بأمارة ولايته؟
ربما لأنها سمعت بدرايته بعلم النساء!
أللنساء علم؟
قالت لك أن الأنام كثيرون يدورون حول سياجه الخشبي المضفر، يبتهلون، يطلبون تحقيق الأماني.
هأ هأ ……لا أحد سوى الكهل.
لماذا قبل زيارتكما لهذا الولي تركت كتاب الذكريات في كشك الأمانات؟
ولماذا لم تعترض واكتفيت بالمشاهدة؟
ولماذا نبت هذا العقار كالهالوك؟
لم يكن قائما منذ لحظات، وكأن العالم المتغير ناموس الكون!
الأسئلة والأطروحات – الآن- متاهة.
أخيرا سُمح لها بالعبور، تصعد درجات السلم وأنا في عقبها، وكأنني أتشبث ببردتها حتى لا أتوه، الأتربة المتراكمة تزكم أنفي، الولد يتململ، ألتفت للعجوز، أجده مقرفصاً هذه المرة، يرسم دائرة وخطاً فوق القاع.
ها هي الغرفة تنفتح،رجلان ينفخان الكير، ويدقان الحديد، جسداهما مفتولا التكوين، ندنو فلا وجود لسواهما ، يقولان:
عشر آلاف من الجنيهات للعبور.
شطرا الحائط الذي خلفنا أتحدا، لا باب ولا فراغ، أقول لهما:
أيمكن أن أكتب شيكاً؟
يقهقهان.
تتأملني في قرف، أفكر – جديا- في صرعهما، تومئ لهما، ترق سحنتاهما، يدعاني أمر بالصغير، أهبط الدرجات في بطء وهدوء.
هاأنا كعمود الأنارة أترقبها، لا أحد بالشارع ، وكأن البحر ابتلع ماءه، أنشدّه لأعلى.
لماذا غادرتها؟
ما الذي سيحدث لها؟
حينما تتفوه يصمت الجميع!
أتشعر الآن بالرجولة؟
ما جدوى وجودك؟
حفيف حركة يصدم أذنيّ، يسافر الوقت ولم تأت بعد.
أتركن الصغير فوق الطوار؟
أتصعد لتعجل بهبوطها؟
لماذا لا تغادر؟
لماذا لا تتسلى باستكشاف جسد الوليد؛ أبه خدوش أم لا؟
أنزع اللفافة، بجلده زرقة غامقة وندوب رمادية، ألفه ثانية.
ما دلالة هذه الجروح؟
أحلت به لعنة الولي؟
لم يره الولي بعد يا معتوه.
طبول ومزامير في نافوخي، ذهاب وعودة وبينهما حيرة.
تجدها الآن تعافر، كيف تعتقد فيها الغواية؟
حتما ستأتي، لعلها تجتازهما سريعاً ، اللعنة- كل اللعنة- علي هذا الولي!
أهذا مددك يا ساكن الشعبين؟
ليس لك دور سوى الرصد.
ترفل خارجة من الباب الذي كان موصدا، تشيعها الابتسامات.
يتدرج تكاثر الأفراد.
تنفلت أبواق السيارات زاعقة.
شيء ما يلجمني، دعك من هواجس الريبة.
تأمرني بالانتظار، تقفز كالريشة، تدخل عمارة باهتة، كادت الشمس أن تصهرنا، تعود وبيدها دفتر الذكريات.
لماذا غررت بي ، وأوهمتني أنه مودع بالكشك.
علق الحلم بذهني طويلاً.
كلما اقتربت مني وحاولت الحديث معي نهرتها.
ربما يهل مساء بحلم جديد .
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.