انهيار قصة قصيرة بقلم / أسماء عبد الراضي
١… أَجلس في بلاهة، تتجمَّد الدُّموع في عينيَّ، يتسلَّل الصَّقيع إلى عظامي، برد (يناير) على كوبري قصر النِّيل لا عزيز لديه، تمامًا مثلي، هكذا قالت لي إحداهنَّ يومًا “من كانت..؟” لا أذكر..! عددهنَّ من الصَّعب أن يحصيَه ضعيفٌ في الرِّياضيات مثلي..!
“ماذا حصدت أنا..؟ غريب أنت يا سراج، هل هذا سؤال؟!”.
حصدت الكثير من المتعة، الكثير من الليالي الحمراء، والأهم من ذلك، أثبتُّ لنفسي أنَّ جميعهُنَّ يحملن ذات الوجه، وجه الخائنة.
لكنَّي أبدا لم أحسب لهذه اللَّحظة حسابًا، لم أتوقَّعها أصلًا. آه، تذكَّرت، فاشل في الحساب أنا منذ صغري، هكذا كانت تقول.!
أمسكتُ به، تأَمَّلْتُه في شرود، ولمَّا كان قاب قوسين من رأسي، خالجتْني لحظةُ تردُّد، وَأَدْتُها في مهدها، “مثلي لا يستحق الحياة” قربته أكثر، ضغطت بإصبعي على الزِّناد، لينطلق مدوِّيًا في سكون اللَّيل.
٢… في سينما (سيتي ستارز) بمدينة نصر رأيتها، عشرينِيَّة ساحرة، خطفتني زُرقة عينيها من النَّظرة الأولى، يتسرَّب أريج عطرها إلى خلايايَ برقَّة عنيفة، يُدغدغ عواطفي بعنف رقيق، امتلأَتْ قاعة السينما عن آخرها، لأوّل مرَّة أسعد بوحدتي “مثلك يا سراج، لا يطوف هذه الأماكن منفردا”، ابتسمت وأنا أقولها لنفسي.
جلوسها بجانبي ملأ المكان دفئا، بدأ العرض، انطفأتِ الأنوار، تابعتها أكثر ممَّا تابعت الفيلم “عشرينيَّة بجمالها.. هل يغريها رجل على أعتاب الخمسين مثلك..؟!”
ولِمَ لَا، أَنسيت شعارك، كلهن يمتلكن نُدوبًا إن أَجدت ترميمها بطلاء يناسبها فلا فرق إذًا بين عشرينِيَّة وأُخرى فِي الأربعين، مرَّت اللَّيلة عقيمة جوفاء، لم أظفر منها بشيء، حتَّى اسمها لم أعرفه.
بعد تلك اللَّيلة، لازمَتْ صورتها خيالي، في كلِّ مَرَّةٍ أخرج من البيت أحلُم برؤيتها، حتَّى حدث ذلك في مكان كان آخر ما يخطر لي أن أراها فيه.
في عيادتي..! فُوجِئتُ بها مريضةً تتمدَّد أمامي على الكُرسيّ، غمرتني فرحةٌ من نَوعٍ خاصّ، كمن فاز بصيد ثمين “وهل جديد عليك هذا الشُّعور يا سراج..؟!” للحقّ إنَّه شعور متكرر، يصيبني مع كل فريسة جديدة تقع في شباك مصيدتي التي تنجح في مهِمَّتها باقتدار.
عائدة لِتَوِّها مِن أُوروبا بعد خمس عشرة سنة من الإقامة هُناك، تُعاني من اضطراباتٍ نفسيَّةٍ طفيفة، لعدم قدرتها على الاندماج، ليست معضلة، سأجعلها تندمج، تندمج جدًّا.
أعترف أنَّها مُختلفةٌ عن جميع من سبقْنَها، فريدةٌ، لم يكُن فقط اسمُها، بل كانت كذلك في كلِّ شيء، سرقت قلبي، بل سلبت كلَّ ما فيَّ، لم يبق معي منّي شيء، “آهٍ يا سراج، كنت دائمًا تسلبهنَّ، ولأوَّل مرَّةٍ تُسلب أنت”، استعصت على شبكتي، لم تسقط في براثنها بسهولة، أنا من سقطت..!
عندما سمع صديقي الَّذي شارف ابنه على سنّ الزَّواج أنَّني سأتزوَّج لم يصدّق، لم يصدِّق إلَّا بعد أن شهد على عقد زواجنا.
٣… – فاشل ابنك في الحساب يا سي فهمي، لازم يتأسس صح.
تصرَّفي كيف ما تشوفي يا أمينة، المهم لا يشعر بغيابي.
اطمئن يا سي فهمي، ابنك وبيتك في إيد أمينة.
غير أنَّ زوجةَ أبي لم يكن فيها من أمينة سوى اسمها، درس الحساب كان لأجلها لا لأجلي، يوم أن رأيتُها بين أحضان ذلك الوغد امتلأ قلبي حنقًا، أخبرت أبي بما رأيت عندما عاد في إجازة قصيرة، كانت النتيجة (عَلْقَة) ساخنة حتَّى أتعلَّم الأدب..!
يوم أن تأكَّدت زوجة أبي من مضايقتي لابنتها، أجبرت أبي على التخلِّي عنِّي، فَاستجاب لها سريعًا بإرسالي إلَى بيت جدَّتِي، وللحقّ إنَّني لم أُضايق ابنتها، فقط فعلتُ ما فعله الوغد بأمها في غياب أبي، بيد أنِّي طفلٌ..!
جدَّتي لِأُمّي تراني وجه شُؤم، لأنَّ ابنتها تُوفِّيت وهي تَلِدُني، ألمَسُ ذلك في حركاتها وسكنَاتها، في نظراتها أيضًا، ما لَبِثَتْ جدَّتي أن تُوفِّيَت، احتار أبي، إلى من يَكِلُنِي، لكنَّ عَمِّي العقيم أراحه من همِّي، عشتُ فِي كَنَفه، أحبَّنِي كابنه، له الفضل ي أن أصبحتُ طبيبًا. ٤… تُقَلِّب (فريدةُ) في ألبوم صور لها، جلستُ بجانبها، طَوَّقتُ خصرها بيدي بينما راحت شفتايَ تتنقَّلان علَى ذراعها البضِّ كنحلةٍ تترشَّفُ الرَّحيق، أمَّا عينايَ فكانتا تضجَّان بشوق عجيب، لاحظتُ توقُّفها عندَ إحدى الصُّور، نظرتُ إليها نظرة تسمَّرتُ على إثرها للحظات، ثم اعتدلتُ في جِلسَتِي، معقول هذه..!؟ أذكرُها جيِّدًا، نعم، هي تحديدًا لا يمكِنُني نسيانها، سألتُ (فريدة) باهتمام فاضح، وأنا أُشير للصُّورة بيد مرتجفة:
من هذه..؟
قالت بنبرة حزينة ثقبتْ أُذني:
أُمِّي.
أُمُّها.. مرڨت، أُولى ضحاياي، تركتُ البلد خمس سنوات هربًا منها لمّا ادَّعت حملها منّي، ابتلعتُ ريقي بصعوبة، وأنا أقول:
وأين هي الآن..؟
ماتت..!
فريدةُ أخبريني، من أبوكِ..؟ أين هو؟
أجابتني مندهشةً:
ما لكَ يا سِراج..؟ هل تذكَّرت أهلي هكذا فجأة..؟! أَلمْ تَقل لي لا يهمُّنِي من تكونين..؟
أُحاول التقاط أنفاسي، قلتُ والعرق يتقاطر من جبيني:
أَخبرِينِي، لأجل خاطري، تحدَّثي.
ظلت صامتة، ألقَيتُ ألبوم الصُّورِ، وأخذتُ بِيدها فأوجعتُها، قُلتُ مُحاولا طرد الغضب وتَصنُّع الهُدوء:
ما زلت عند كلامي، لا يهمُّنِي، أُريد فقط أن أعرف.
أفلتَتْ ذراعها من قَبضتِي، نظرتْ في عينيَّ، ثُمَّ استطردت والدُّموع تملأُ عينيها الزَّرقاوين:
اسمع يا سراج، لا أعرف لي أبًا، أخبرتني أُمِّي أنَّه مات مذ كُنت في بطنها، عندما كبرتُ عَرَفتُ مِنها أنَّهُ كانَ نَذلًا، استغلَّ ضعفها وظفر منها بليلة سوداءَ كنتُ نتاجها، تَزَوَّجتْ بعدها من رجل طَيِّبٍ قبل أن يُعيرني اسمه ..
دارتْ بي الغُرفةُ دورة لا اعتدال لها، فقدتُ القدرة على سماعها، تسارعت أنفاسي، سرتْ في جسدي سُخونةٌ مُحرِقَةٌ، اجتاحَتْني رغبةٌ في التقيُّؤ، “هل يمكن أن تكون فريدة..؟! لا.. مستحيل.. مستحيل..!”.
التعليقات مغلقة.