جُمّار ودقيق قصة قصيرة بقلم /عصام الدين محمد أحمد
هاجمتني الوخزات :
“الأرض متجمرة؛ فالشمس تخبط وترزع .
أسفل شجرة الجميز العتيقة قعدنا نستظل، جلبابي مُتنسل ولكنه لايسلبني الشعور بتفردي.
القرية مختبئة في البيوت وأسفل الأشجار الوارفة الظلال، حتي الأوز والبط يحفرون القاع بحثًا عن أتربة رطبة، الدور مُسنكرة وحوائطها الكالحة ملتهبة، الجاموس والأبقار تركن في زوايا الزرائب ملتمسة بعض الظل.
مع هذه الحرارة نتخانق على اختيار لعبة نتسلى بها، أنلعب سيجة؟
يرفض بقية الأولاد..
فلنجرب الاستغماية، بعضهم يقترح:
فلنلعب عسكر وحَرامِيَّةّ.
لكل فرد منا رأي، وكعادتنا نختلف أكثر مما نتفق وفي النهاية نحتكم إلى القرعة أو”كلوا بامية”، كل مقترح يمثل لعبته ومن يفوز بالقرعة يفرض لعبته، أخيرًا تكسب مسابقة الجري.
أدفس ذيل الجلباب في السروال، ننخلع من الأرض قبل انتهاء العد.
أطير، أبتلع الأرض دون مضغ، يكويني صهد الأرض، لاشيء يلهيني عن السبق، أركب الجسر الترابي، الأحجار المسنونة مولعة نار، تماما كالسكين الموضوعة علي المسن، تعبرني الحمير العائدة المتجمرة ، أبرق كالدبور، أحتضن شجرة الجميز، ألهث، عرقي غزير ولساني جاف، نبضاتي لها صوت مسموع، ألتقط الأنفاس.
لا أحد يأتي بعد، أدعك ثمار الجميز، تدبقني ألبانها، أفك أسر جلبابي، بقبقت بطنا قدمي، ريالتي الجافة لاتبردهما، أعوز جردل مياه، عندما يعود الأولاد، ويقرون فوزي سأغطس قدمي في حوض البهائم، هكذا صبًرت نفسي.
هل بقية الأولاد تباعًا.
الصدور تعلووتهبط كبالون تتصل فتحته بمكبس هواء خربان، ابن العمدة يقضم الجمار، أقول:
أناالفائز.
يضحكون، يتغامزون، تنهال عليّ العصي و”فين” يوجعك، أنهار، يمضغ الأولاد رقائق الجمار، تغيب الدنيا، تشرق كومضة، تأفل وفي حوزتها عينايّ.
الخفراء يحملونني إلى المستشفي، أمي تولول، تشهق الكمد وتزفر الحزن، وكأنه مكتوب عليها الغم، والدي يتوه في دهاليز التحقيقات، مخبر وضابط ووكيل نيابة وأوراق تروح وتعود، وأناعنهم لاه، تائه في سراديب البلاهة، قالوا لي:
إنني ظللت طريح الفراش أكثر من ثلاثة أسابيع، أذناي تلتقطان الغمغات، تشم أنفي روائح البرتقال والموز والكحول والضمادات، أفتح عيني، مازال الظلام يسيطر، انتفت الهيئات، صداع قاتل يكبلني، أحرك ذراعي في الفراغ باحثًا عن الوجوه ، كل الوجوه انسحبت مبتعدة إلا نحيب أمي و( عديدها)، أبي يعجز عن الحركة، فاليد قصيرة والعين بصيرة.
العمدة يربت كتفه، يلعن شقاوة العيال، يعاتب القدر، يدس في جيبه رزمة بنكنوت. تغلبت على الظلام بالمثابرة والدرس، تفوقت في دراستي وأصبحت محل فخر، ولكن في القلب جمرات مشتعلة دوما، ربما تخمد النيران بمرور الوقت!”
الباب يُدَق، يتذمر البكري ذو الأعوام الثمانية بعنف وهو في طريقه لفتح الباب، أزعق، لعلهم يسكتون، أحذرهم بقطع المصروف، لا يأبهون، أنده أم العيال، أيضا لا تجيب، ترتعش أناملي ، يتعالى صراخهم.
ألتمس الطريق إليهم، أحفظ الشقة، كرسي على اليمين وكنبة على اليسار، أنكفئ على وجهي، كومة خشب تعترضني .
ما بال الخشب ينبت فجأة !
أزيحها، أهتدي بالحائط إلى مدخل الغرفة.
عم السكون، ولكن حركات أقدامهم لم تهدأ بعد، أتوعدهم، تتشتت كلمات الوعيد،لا أسمع إلا توتر الأنفس، أعود إلى الكنبة بخطوات وئيدة، أستند على الجدران.
يدخل أحمد السائق، يسبقه التبرم، أمرته بالنزول ثانية، قمت صلبًا وكأن قوى العالم جميعها انصهرت في جوفي، حاول أن يسندني ولكنني رفضت، فكلما انهطلت من درجة سلم أختبرت الأخرى، ارتكنت فوق المقعد الخلفي دار محرك السيارة، تطارحني التوجعات:
”ما أقسى الصقيع في دروب الوحدة، ربما يزيح السفر الهموم، فما أجمل استنشاق هواء الحقول الآن!
ولكن تنقلي أعالني بالكُرَب فالمرشدة منشغلة بوهم اسمه الوقت، أستأجرها بنصف قروش البعثة لتغادرني في الجامعة كصندوق البضاعة المستوردة من الشرق، ثم ؛ آه من ثم هذه!
تعود لتجرني إلى المكتبة.
تعبث يداي بالحروف البارزة، تهدأ المكتبة تماما ، يهمس أمين المكتبة في أذني معلنًا أن وقت الرحيل قد أزف، تأتي مهرولة لتقودني إلى الغرفة الثلجية، صوتها حاد ينم عن تكوينها الآلي، وكثيرا ما أغفلت تشغيل جهاز التدفئة، في بداية الأمر لم أفكر في البحث عن( زر) التشغيل واكتفيت بالبطاطين ومحاكاة الوضع الجنيني أسفلها، إلى أن عهدت قدماي الطريق إلى مفتاح التشغيل.
كمحاولة أخيرة أخضع ليد جراح عيون، مكابدات يؤطرها الأمل، أسفل الضمادات غبشة، ومع الفجر تشرق العين، أكتم خبري مع زوجتي.”
أتقلقل فوق المقعد، أهتز كالبندول، غبار الضجيج يطير في الهواء، يصدم أذنيّ في توال، لا أغمض جفنيّ. فما فائدة الإغماض؟
من الضروري الإجادة ؛ حتي لا يُفتضَح أمرك.
الصبر .
ليس سخفاً ادّعاء العمى، حتى عم أحمد يشاركني التمثيل!
صوت انفتاح الباب يدفعني إلى الحركة، أمسك يده ، وبيدي الثانية العصا المتذبذبة، أصف له البيت:
أكبربيت علي يميني.
تنبح الكلاب، أحس بحركة السائق المترددة، لا حس ولانفس، ابتلعت الكلاب صلصلة نباحها، رياح الشتاء تصفعني.
تباعدت خطواته، غاب طويلًا، سطح المصطبة يزداد برودة، لا أستطيع رؤية البيوت حتي بيتي الذي ورثته عن أبي تاه منذ زمن بعيد عن ذاكرتي، مع ذلك اشتريت عشرأفدنة وبنيت على رأسها منزلا قالوا لي حينها:
هندسته جميلة وراقية.
أنفقت فيه المال الوفيرحتي لاتطير جذوري مع من طاروا.
أحاديث هامسة تتضح نبراتها، العمدة يشدني إلى أحضانه، أتماسك فصدره منتفش، لسانه يتهدج:
أهلا بالدكتور.
بصوت حاولت أن يبدو هادئًا أسأل:
كيف حالك يا عمدة؟؟
زين.
كلمات يمين وكلمات شمال والحوار لاينضب، هكذا جعلته يبدو، خلص كلام فقلت له:
ياعمدة أنا رجل كبر وشاخ وأنت عارف أن الأولاد لم يروا الأرض، يعني لا رابط يشدهم لها وأقترح عليك أن أتنازل عنها لك.
يحك ذقنه، يتعجل القول:
والله يا أستاذنا طلبات الناس تخلخل أعتًي تل.
أجهزت عليه قائلًا:
عاذرك.. ولكن لإقناع زوجتي أعرض عليك التسابق وللفائز أرض غريمه، وطبعا لن أسبقك لظروفي، وبذلك تكسب الأرض وأم العيال لاتعترض.
يسخر، يصرح بعجزي، يدير الأمر في ذهنه، يكتشف غبائي.
أصر على خط الاتفاق في وثيقة.
أهالي القرية يتجمهرون، يسر لي السائق بوصول أجولة الدقيق إلي عتبات الدور، يقفون، حفيف تزاحمهم لايقلقني، يصفرون معلنين البدء.
يطير بانتهاء العد، تتراشق التعليقات، يشق أسيجة الهواء بسرعة مطردة.
تخطئه أنظار السابلة، ألف خلف الجدر، لا حاجة للف، ولكن للعيون المشرئبة حاجة إلى الغشاوة، أعود ثانية، ذهب الصباح وخلفه المساء ولم يعد، أو هكذا أتخيل!
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.