قصة قصيرة بعنوان نحيب طفل وأنين امرأة بقلم عصام الدين محمد أحمد
يستيقظ النهار من سباته العميق.
تتخلص من بقايا الكسل على مضض، تصحب صغيرها، تودعه يد الحارس.
يخطو متعثراً، يبتسم ، يفتح ذراعيه لاهيا.
يغفل الحارس.
امرأة عودها ضامروقدها جاف تترقب الطفل الحائر، تروق لها المشاهدة، تتلفت يمنة ويسرة، تكتشف قلة المارة بالشارع، تشير للصغير، فيخطو إليها فرحاً، تدنو منه، تغرد، تدعوه لحضنها، تُقبّل وجنتيه، تهدهده، ترفعه، تسند عجيزته بذراعها المنثني، تعبث قدماه بصدرها الطري، تربت علي ظهره المتقوس، تلقمه قطعة حلوى طرية، يتذوقها مبتهجاً، تداعبه كأنه صغيرها الذي لم تلده بعد، تتسحب هاربة.
تئز نبضاتها أزيزاًخرباً، تبتعد ، تخلف الشارع بشوارع عدة، تركن أسفل الكوبري بعيدا عن الناس، تراودها الذكريات:
“تأفل الشمس مخلفة ظلمة دامسة، تصخب الرياح، تتكئ علي الحائط المخرفش، تنهار متطوحة الأطراف فوق الأرض، يسوطها صوت أبيها الجهوري:
بنات الناس تسمع الكلام وتعيه.
تفترسها نظرات الأم، ينصحه أخوها:
الموضوع يلزمه صبر وعقل.
تنكفئ رأسها فوق حجرها، يرتج جيدها، تجهش بالبكاء، تدبق الدموع واللعاب يديها، يتبرم الأب:
كفاية دلع وقلة أدب.
ألبسها برقع الحياء، يشرح:
الحب في قريتنا مصيبة، كلام فارغ، وقلة قيمة، ودليل على فلتان العيّار.
تنشج، تنهرها الأم:
أغربي عن وجوهنا.”
يطفح كيل الصغير، يلتمس أمه،ينفد صبره، يبكي، يضرب بكفيه وجهها الدامع، تهرول، يلعق دموعه، تبقع الحلوى وجهه، تضغط بدنه اللدن، تكابد التوجعات الكابوسية:
“يتناوم الفجر، أنسرب كحامض القربة المشدودة علي حامل الخض، يصعدني قطار قشاش، يطوي بكرة الأميال، تنسطح الأرض حقولاً خضراء، تطاردني أظافر أبي لتنهشني، وربما يدهسني بالشماريخ ، أطرد هواجسي متشبثة بالنافذة، أجوب مدينة مخلبية، أفتش عن عنوان مجهول، تتناقلني الدروب اللولبية، تجهلني الجدر، أقطن الأرصفة، يفحصني بعيونه الرمصاء، أردد:
ظل رجل ولا ظل حيط.
ألم يكن أبي رجلا؟
دعك من الفلسفة، فلكل أوان قانونه الخاص!”
يتلهى الصغير بجلبة الزحام، تشد الطرحة جمعاً لتلابيب قوة مفتقدة، ترنو للذبائح المعلقة علي أبواب الحوانيت، تتذكر قسوة القصابين وفراغ البطن .
تطرد الفكرة، تتجول في أرجاء الشارع أكثر من مرة، ترجها التوابيت:
“أغني في الأتوبيس، أنثر مواويل الفقر، أوزع الحلوى علي الركاب، أرمل أمي، أيتم أخوتي استنهاضا للرحمة، يرفضون الحلوى، أتسول ثمن التسول، أخيرهم:
ساعدوني بالحلال فالحرام هو البديل.
يتفرسون وجهي شماتة، ألم الحلوي ثانية.
من ظننت أنه سندي ينتظرني بالغرفة القاتمة، يسلبني محصول الصدقات .”
تقضم الشارع، تتقيأ القضمات، تدنو من فرارجي يهش وينش، تقدم قدما وتؤخر الأخرى، تقترب أكثر، تبتعد ثانية، يتعارك جوفها:
كيف تقدمين علي هذا الفعل الشنيع؟
ما أجمل اللحم المشوي!
ما ذنب الطفل؟
لا تشغلين البال : سيعثرون عليه.
تبتر التردد، تلجمها التنهدات خبلاً، تتبعثر الحروف:
زن لي ثلاث فرخات.
يتفوه البائع ذو الأسمال المتخثرة دماً :
ست كيلو جرامات؛ بثلثمئة جنيه.
لم يمهلها التروي، يُسقط الدجاجات في برميل المياه الفائرة، ينسلخ الريش ، يُلقي بهن في خشم ماكينة النتف، يخذلها التلعثم، تنبش بطن كيس النقود الفارغ، تقول بخنوع:
امسك الولد دقائق.
يرأف لحالها، يبش في وجه الصغير، تستطرد:
البيت قريب سأحضر لك الفلوس حالاً.
يستدرك :
والولد؟
تتأزم :
احفظه معك دقيقتين.
يربت علي الصغير، ينصحها:
خذي الشنطة تخفيفاً.
تتقلقل تائهة، تلتوي قدماها، يستوطنها الصقيع، تجتر انفراجات الوجه البلهاء، يتضاحك الأنام، يتندرون بالفكاهات، تلعن وتسب، تتساقط الفرخات من الكيس المقطوع، تلمهن في أوراق صحيفة متسخة، تملؤها حروف الإنجازات وآيات الرفاهية وإعلانات المنتجعات الساحرة، تركل التأنيب متعللة :
ثلاثمائة جنيه فقط وتسترد صغيرها.
كيف السبيل لها لمعرفة مكانه؟
لا يهمني الأمر ، فلماذا تملك طفلا، وتدفع مصاريف مدرسته والتي تحل جميع مشاكلي؟
وما جريرتي؟
رغبت الحياة كأي بنت فأصبحت متشردة، جف فؤادي وتعلقم ريقي.
تدفع باب الغرفة المتربة، تبدل ملابسها بالثوب البالي، تسمع رنين جرس المدرسة، تشعل البوتجاز الصغير، تلمح من النافذة فلول الطلبة الباحثين عن الطفل، الغفير يلعن حظه، يفحص الأولاد مداخل ومخارج المدرسة، ينتشرون في الشوارع والأزقة.
لم تستسغ طعم اللحم، امرأة تطاردها، تعدو خلفها وبيدها سيف لا يبين آخره، تلهث، تتعرق، وتتلعثم بحروف متشظية ،تصرخ:
لم أفعل لك شيئا.
تهرب بين الشعاب، تلاحقها والشرر يتطاير من عينيها، تعوي:
ما دست لك علي طرف، وما اقتربت من ظلك.
يرتد صدى مهول:
قتلتي ابني.
لم أقتله، رهنته فقط.
يشتد الظلام، وحوش الجبل تعدو في ركاب من تدعي أنها أم الطفل، الحسام في ظهرها، والسباع تحيط بها، نباح ونهيق وزئيروفحيح كلها أنغام تتزاحم في صدرها، ما قتلته، ماسرقته، ما حملته فوق صدري، ما أبكاني نحيبه.
اتركوني،سأقول لكم الحقيقة، طفلكم أغواني، تبسم في وجهي، حملني فوق صدره، أمي كوتني بالنار، ربطتني بالحبال، صغيرك قبلني، لا أحد يصدقني!!
تفتح عينيها بوهن وتعب، أبوها وأمها وأخوها يحيطون برأسها، تلسعهم حرارة جسدها المهزول، جميعهم ينتحبون.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.