بسمة بنت الشيخ بقلم.محمد فايز حجازي
كان اليوم هو أول أيام سبتمبر، يوم وصول حوالة والده الشهرية، وفي مثل هذا اليوم كانت نفسه تميل إلى رؤية السماء أكثر إشراقًا والفتيات أجمل وأبهى من أي وقت. كانت الشمس قد ارتفعت في الأفق وشرعت تبدد فلول الظلام الأخير فوق الميدان، وبدت السماء زرقاء متربعة على عروشها. وقف في شرفة منزله، يدخن بلا مبالاة وهو يرقب أسراب العصافير التي تغدو خماصًا باحثة عن أرزاقها بين الأشجار الهزيلة حول الميدان، دلف إلى حجرته ليتطلع مرة أخرى إلى المرآة، فألقى نظرة على وجهه وملابسه.
قالت أمه:
حقًا لا ينقصك شيء.. إنك وسيم وأنيق كالعادة (ثم أردفت)، إذا أردت أن تحتفظ بمبلغ أكبر هذا الشهر فلتفعل. (ثم صمتت برهة وقالت) بل الحوالة كلها لك، الخير كثير ويفيض والحمد لله.
قال سمير:
أنت أم الأمهات.
وطبع قبلة على جبينها ثم عاد إلى المرآة ليعدل من هندامه.
هبط الدرج على مهل، درجة درجة، فقد كان يشعر أن الدنيا كلها ملك يمينه، شاب في أواخر العشرينات، وحيد والديه، اكتفى والده بعد زواجه من أخرى وسفره خارج البلاد، أن يرسل له ولأمه ما يكفيهما ويفيض.
توقف عند بسطة السلم أمام شقة نوسة، كانت الفتاة المطلقة تقف مستندة على باب شقتها، عاقدة ذراعيها على صدرها ومتكئة باحدى قدميها على الحائط وكانت ترتدي قميص نوم خفيف من الحرير السماوى يبرز استدارة ردفيها ويضفي عليها جوًا من الفوضى والإثارة يوحي بأن جسدها مازال بدفء الفراش وأنه عار تمامًا تحت القميص وزاد من فتنة جسدها الفتي غزارة شعرها الأسود الفاحم المنكوش ووجهها الخالي من المساحيق الذي طغى النمش على شحوب خديه.
قالت له: صباح الخير يا سمير.
لم يتوقف سمير معها لأجل سواد عينيها، فنوسة لم تعد تعنيه في شيء بعد أن طردها من دائرة اهتمامه منذ فترة طويلة، وكان يشعر بالضيق أمام إصرارها على ملاحقته بين الحين والآخر، غير أنها كانت تلعب له دورًا مهمًا للغاية، أكثر أهمية من دورها الليلي الذي تشبع به سمير ولم يعد يثيره كثيرًا، فقد ارتضت بعد محاولات مضنية -بلا طائل- في الزواج الرسمي من سمير، ارتضت في نظير المتعة والمال والوعود أن تلعب الدور الأكثر قذارة، بأن تنصب شباكها لاصطياد من يرغبهم سمير إلى شقتها، حتى إذا ما أشبع رغباته انتقلا معًا إلى مهمة أخرى لاصطياد ضحية أخرى، وللحق فلم تكن كلهن ضحايا فمنهن من كن يستلذذن بالدور ويستمرئنه، ويستمرن فيه، وكانت لنوسة وسائلها الشيطانية التي تسقط بها من أراد سمير. في البداية كان سمير يعطيها حساب الفيس بوك الخاص بالفتاة المنشودة، ثم يأتى دور نوسة في التواصل معها عن طريق الرسائل المكتوبة والصوتية، تتحدث معها وتصادقها وما أن تتحصل منها على بعض الصور الشخصية وتعرف أسرارها ونقاط ضعفها، حتى يأتى دور سمير في الدخول وتكملة المهمة بالتراضى حينًا، وبالابتزاز والتهديد أحيانًا أخرى، وكانت وسامته الشديدة لها عظيم الأثر في تسهيل مهمته في معظم الأحيان، إلّا أن نوسة كانت قد سئمت هذا الدور الذي لعبته غير مرة، مع تعهد من سمير في كل مرة بأنها الأخيرة، وأنه ما يفعل هذا إلّا بداعي الانتقام ممن أساؤوا له ولأمه تارة، وممن تسببوا في انفصال أمه وأبيه تارة أخرى.
صباح الخير يا جميلتي (رد عليها التحية أمام بسطة شقتها رافعًا يده على جبينه متصنعًا تحية وانحناءة ثم هم أن يواصل نزوله، عندما جذبته نوسة من ذراعه وقالت:
أتحسب أنني استيقظت في هذه الساعة بلا سبب؟ لقد نهضت مبكرة ولم أهنأ بالنوم أولًا لأنعم برؤيتك، ثانيًا للحديث عن موضوع جارتنا بسمة بنت الشيخ سلّام.
قال سمير:
ولكن يجب أن أنصرف الآن.
فضحكت نوسة في سخرية وقالت:
ها…ها.. ديوان الوزارة ينتظرك.. مصالح العباد ستعطل.
تذكر سمير أنه معبود النساء وتذكر أيضًا ما يجب على معبود النساء أن يقوله، فانفجرت شفتاه عن أسنانه اللامعة وكشفت عن ابتسامة عذبة صاحبتها نظرة ثاقبة في عينيها.
أرى يا حبيبتي أنك ذهبت إلى الفراش متأخرة وتعرضتي لأحلام خبيثة، إن موضوع بسمة بنت الشيخ سلّام منته، وكما اتفقنا هي المرة الأخيرة التي ألجأ إليك فيها، بعدها تصفو لنا الحياة أنا وأنت، لا أريد إلّا كسر كبرياء تلك المغرورة وإذلال أبيها الذي لا يبرحني في غدوي ورواحي إلّا ويسمعني من مواعظه العقيمة ما يسم البدن.
إن الفتاة منهارة تمامًا، إن صورها المُخلة التى ركّبتها أنت شيء بشع.
نعم، تبدو طبيعية للغاية، فأنا عبقري كما تعلمين في تلك الأمور، وقد أرسلت لها تلك الصور على رقم الواتس الخاص بها، وأخبرتها أن تلك الصور قد وقعت في يدي مصادفة وأنني كفيل بحمايتها، وبالطبع أثناء زيارتها لك اليوم مساءًا كما اتفقت معها، سأقوم باللازم.
ولكننا لم نتفق على ذلك، أنت تحصلت على صورها الخاصة عندما سطوت على حسابات هاتفها المحمول، وأنت أيضًا من اقترحت عليها مقابلتك في شقتي بدون أن تُعلم أحد. هم جيراننا وهم أناس طيبون أيضًا، لن أشاركك هذه المرة، وسأكشف سترك.
لوى سمير معصميها ودفعها إلى الحائط، أما هي فأخذت تنثني تحت قبضته وتحاول التخلص منه وعقرت يديه اللتين تشلان حركتها وراحت تصرخ في اضطراب فاقدة السيطرة على نفسها وصاحت فجأة:
أنت تحب بسمة، أنت تحبها وهي لا تعيرك أدنى اهتمام وهذا ما يوجعك.
ثم ألقت برأسها إلى الوراء وتقوست بجسدها العاجز عن الحركة فارتد شعرها الغزير إلى الخلف في هالة مشوشة، وكشف قميص نومها الذي تراخى عن ثديها عاريًا لاهثًا ورددت:
أأنا أستحق منك هذا! بعد كل هذا الحب!
فأسرع سمير قائلًا:
حذار يا نوسة، حذار من الصياح، الصياح هو الشيء الوحيد الذي ينسيني من أحب.
فقالت نوسة بنبرة ذليلة تدعو إلى الأسى وتصطدم باعتزازها بنفسها:
وأنا! هل أستحق منك الرمي؟
فقال سمير:
كلا، كلا أنت جميلة، أجملهن جميعًا ولكن إهدئي، إهدئي.
ثم أردف بصوت خفيض:
أنت لا تستحقين الرمي أبدًا، لنلتقي الليلة، ونرجئ موضوع بسمة بنت الشيخ سلّام إلى حين.
وأخذت نوسة تهديء من روعها وخبا صوتها شيئًا فشيئًا، فأسندها سمير على باب شقتها ثم عدل ثيابها وجذبها إليه ولكن نظرتها قد استحالت إلى نظرة زجاجية واتسعت حدقتا عينيها وطبعهما الجمود وارتعدت ذقنها واعترى يديها برد كبرد الموت، وظلت هكذا إلى أن انزاحت الأزمة فانفجرت في البكاء واستردت أنفاسها وأخذت تنتحب مستندة إلى جبينها على كتف سمير، فربت بيده على شعرها في صمت وتحاشى أن ينبس بكلمة خشية أن يثير ثائرتها مرة أخرى.
بعد أن هدأت نوسة تمامًا وقد أكد لها أنه سوف يعود إليها مرة أخرى فور الانتهاء من مهمته. غادر سمير إلى طريقه يدندن وكأن شيئًا لم يكن. على بعد خطوات من البيت، كان لطفي العجوز يجلس على المقهى الذي يمتلكه، وكان يضع بين شفتيه نصف سيجارة وعكازه العتيق ثابت كالبندقية في توازن دقيق على فخذه السليم وجدعة ساقه المبتورة، قال له لطفي هل سأراك في الوكر اليوم! إن الرجال ينتظرونك يريدون أن يلعبوا مباراة كونكان ثأرية.
حسن، لا مانع عندي، ولكن لنجعلها في الغد، فأنا اليوم لدي ما يشغلني، وسوف أحضر من المال ما يكفي.
إن كان على المال فهو في جيبك على الدوام، أنت مولود في ليلة القدر، محظوظ في اللعب ووسيم ومحظوظ في الحب أيضًا.
أنا أعرف كيف ألعب يا لطفي وهذا سر مكسبي.
لفظ لطفي العجوز السيجارة بأسنانه، وكان الرجل قد رأي جميع فتيات الحي يترعرعن ويشتد عودهن تحت سمعه وبصره فقال:
لا تغتر كثيرًا يا سمير.
انبسط الشارع أمام سمير طويلًا مستقيمًا ورفرفت على شرفات منازله بيارق الغسيل ودبت الحركة بين سكانه، ونهضت عجوز شائخة الوجه أمام سمير لحظة مروره ومدت إليه يدها، كانت ترتدي ثوبًا طويلًا أجرب اللون أشبه بالجلباب تضمه إلى وسطها بنطاق من القماش وكانت تضع على عنقها شالًا يتدلى على صدرها كان هو الآخر مهترئًا وباهتًا شأن غطاء الرأس المنبسط على شعرها الأشيب المتهدل.
قال لها سمير:
لقد خرجت إلى الكد مبكرة، لكني لا أستطيع أن أقدم لك شيئًا.
فقالت العجوز:
لا يهم أنت وجهك حلو واصطباحي بك سيجلب لي الكثير من الخير.
ابتسم سمير وأخرج من جيبه جنيهين وقال:
خذي هذه النقود من أجل مجاملتك وحلاوة لسانك.
لا إنها الحقيقة، اسمعها من امرأة لها ماض طويل وعريض، أنت جميل كالبدر.
استهل سمير معبود الفتيات يومًا آخر من أيامه السعيدة بإذلال نوسة، وإطراء المرأة المتسولة، كان يتقدم في الطرقات في مشواره الشهري إلى البنك، وهو يشعر بأنه ملك متوج سعيد بمظاهر الحفاوة التي تصاحب مسيرته والتي يرد عليها بابتسامة ماكرة ينفرج عنها فمه المضموم، أو ببريق من عينيه الخبيثتين، أو بخلجة من شفتيه أو بحركة محسوبة من يده، وتحية يريد لها أن تكشف من خلال حرارتها المتفاوتة عن التلقائية أو التكلف حسب الظروف، وعندما كان يدير ظهره كان يخلف وراءه التنهدات وصيحات الإعجاب والتهكم الذي يصاحب الدون جوانات وهم يمضون في رشاقة بين الناس مترفعين عن العامة محبوبين ومبغوضين وسخفاء كالأمراء فوق جيادهم.
بعد أن صرف سمير المبلغ المحول له من والده، توجه للقاء إحداهن كما اتفقا بعد إلحاح منها أيام وليالي طوال، وهناك في الشارع المعزول عن الحي، شارع لا يؤمه كثير من الناس ولا تطرقه السيارات، توجها إلى الأرض الفضاء في نهاية الشارع، بعيدًا عن أعين المارة الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة.
لماذا هجرتني دون سبب! (ابتدرته في عصبية).
أهي المرة الأولى التي توجهين إلى هذا السؤال؟ ألم أجبك عنه من قبل؟
أترى أنني أصبحت فتاة لا خير فيها؟
لمَ تقولين هذا!
طبعًا لا خير فيّ الآن لأني قبلت دعوتك على العشاء في منزل نوسة ووقعت في الفخ، ولكن من دفعني إلى الحضيض؟ عندما كان في استطاعتك أن تنالني لم يكن أحد قد مسني بعد، ولكنك جبان، كنت تحسب أنني أريد أن أورطك، هناك رجال يملكون السيارات والأراضي يركعون تحت أقدامي لألبي رغباتهم، وأنا كالبلهاء أتشبث بك، أيعقل أن يترامى الناس حولي بينما الانسان الوحيد الذي اخترته يعاملني كأنني حشرة، ظللت مهوسة بك، بلعق الأرض تحت قدميك، وعيناك الجميلة لا تفارق عيني ليل نهار، والآن لا تريدني، أليس كذلك؟ لا تحب ارتداء الأحذية المستعملة، كم كنت عمياء!
وعلى رغم أن سمير قد وقع في بداية اللقاء فريسة للارتباك، وبدا أنه كان حريصًا على التلطف إلّا أنه سرعان ما عادت إليه الغلظة وصفاقة الوجه لما أظهرته الفتاة من ضعف أمامه، فوقف مشفقًا عليها وكأنه المنتقم العادل الذي يتأمل جثة الخائن الذي أرداه قتيلًا بيديه وقال:
أنت تحطمين نفسك هكذا، نحن لا نصلح كزوجين.
أدارت له كتفيها، وابتعدت عدة خطوات ثم استدارت له قائلة في قحة وسوقية:
لست أنت من سيُحطم، فأنا ما استدعيتك إلّا لأخبرك بأنك ستدفع الثمن غاليًا، فلدي من بإشارة مني سيرديك إلى أعماق الجحيم.
ثم أرادت أن تذهب إلى النهاية في تجريح معبودها فقالت مندفعة قبل أن تغادر:
أنت لا تثير في نفسي إلّا الاشمئزاز.
أخذ ينظر إليها في واثقًا في نفسه في صفاقة، ظل يرقبها وهي تبتعد
وحين بلغت ناصية الطريق رآها تعبر الشارع بسرعة، ثم رآها بعين الخيال تجري لتصل إلى بيتها بأسرع ما يمكن لتلقي بنفسها على الفراش وتنتحب.
عاد سمير إلى بيته يملؤه الفخر بحنكته في المجال الوحيد الذي يحق له أن يفخر فيه كما يظن، مجال سيكولوجية المرأة.
عندما رآته نوسة من نافذة شقتها قادمًا، خرجت تستقبله كعادتها على البسطة، كانت في كامل زينتها، تنتظره في هدوء واطمئنان وكانت مُستعدة لانتظاره حتى المساء. دلفا إلى الشقة، جلسا في الصالة حينها أشعل سمير سيجارة ملفوفة خصيصًا وقال:
أتعرفين يا نوسة؟ إن صديقًا لى أعطاني هذا النوع من السجائر، عندما أقع تحت تأثيره يعود الماضي في الظهور من جديد، حين كان أبي يلاعبني طفلًا ويأخذني إلى الملاهي والأندية، الآن أشعر بأني في أحسن حال لقد تخلصت من عبء ثقيل.
كانت تلك الكلمات كافية لتبعث الارتياح أكثر في نفس نوسة، عندما قالت في حنو:
أنا هنا معك، سنكون بخير معًا، فقط نبدأ صفحة جديدة وحياة جديدة.
مكث سمير يحدق إليها برأسه الممدود وحاجبه المرفوع حين واصلت نوسة قائلة:
أتعرف فكرت أن أهاتف بسمة بنت الشيخ سلام لأطمئنها، ولكنني عدلت عن الفكرة حتى تجيء أنت وتفعل ذلك بنفسك، فهي بالتأكيد في حالة سيئة للغاية هيا أخرج هاتفك و…
عند تلك اللحظة اخترقت أصوات سيارة الاسعاف المتتابعة جو الشارع، وسادت جلبة هنا وهناك، وضعت نوسة شالًا على كتفها العاري وخرجت مسرعة تستكشف الموقف من الشرفة، كانت النساء يطلن من النوافذ المجاورة والمقابلة يترقبن الحدث، عندما انبرت إحداهن قائلّة:
لا حول ولا قوة إلّا بالله، يبدو أن بسمة بنت الشيخ سلام قد أصابها مكروه، سترك يارب.
التعليقات مغلقة.