على قارب الحبرِ بقلم / ربيع دهام
بمحاذاة قارب الحبرِ وقفتُ.
خلفي مدنٌ من الإسمنت المسلّح، تلتهم خضراءنا ولا تشبع.
متوحشةٌ، نهمةٌ، مُتخمةٌ بالموتِ، ولا تشبعْ.
تقتاتنا. تجترّنا. وتلفظنا من أحشائها هياكلَ عظمية بلا أرواح.
ونكذّب على أنفسنا في المرآةِ ونخادعْ :
” مرآتي يا مرآتي. من الأجمل في الحياةِ؟”.
ونزّين هياكلنا بالجواهر والحِلى،
وبعمليات تجميلٍ من الأنفِ حتى الكِلى.
ونعود ونسأل أنفسنا ونخادع:
“مرآني يا مرآتي. من الأجمل في الحياةِ؟”.
خلفي بيوتٌ من نوافذَ لا تُفتَح. وستائر من حديد لا تُرفع.
وجدران تنبضُ بالموزاييك والصور.
وقلوبٌ جافة لا يعيد إحياءها المطر.
قلوبٌ تشاهد الدمار على الشاشات ولا تشعُرْ.
وصدورٌ تنخرها جراثيم العفنِ،
ولا تعطسُ من حالتها، ولا تسعل.
خلفي أبواب من الحديد والخشب لا تُفتحْ.
بل تزيد في تعداد الحيطان حيطاناً.
وها أنا ذا، تلفظني المدُن من أحشائها وتركلني.
وتتركني هنا.
على شاطئ الصفحة البيضاء هنا.
أشلحُ زيفي المُدَجّن. ألبسُ حريّتي الآنية. أفتح ذراعي للريح
وأمتطي.
أمتطي قارب القَلَمِ وأهاجر.
إلى دنيا الصفحات أهاجر.
أهاجر ولو لثانية، لدقيقة، لساعةٍ، لعمرٍ.
وتدفئني شمسُ البساطةِ وتحرقني.
وأنا مثل الطفل العطشِ أشربها وأسكر.
ويعود رذاذ الحبِّ في فؤادي ويمطر.
وأجذّف. أجذّف بحروفي وبكلماتي.
أجذّف بعيداً عن صحاري البؤس في حياتي.
أجذّف من حيث لا أدري.
أصل إلى حيث لا أعلم.
وما أجمل.
وما أجمل طريق المبُهَم، إذا كان الطريق الذي نمشيه، فارغاً من الحياةِ وأبكم.
وأنتقي بمجذافي كلماتٍ، أنثرها على الصفحات البيضاء، وأمضي.
أمضي إلى بلادي التي ليست كما الطوائف أرادوها.
أمضي إلى أحلامي التي، بالإسمنت دجّنوها.
أمضي إلى بغداد القديمة. إلى شام نزار، وبيروت جبران.
إلى ألف ليلةٍ وليلةٍ، والإلياذة.
وأقول ” هذا عالمي … هذا “.
وأجذّف. وأجذّف إلى قلب حبيبتي وأستريح.
مثل الفلاحين، بعد موسم حصادٍ، أستريح.
و أُلبِس دنياي مروجاً خضراء.
لا أرضاً نلوثها ولا سماءَ.
وأمضي أنا.
أمضي من حيث لا أعرف.
أرحل …. إلى حيث لا أدري.
وتلطمني العواصف بلججها، وأضحك.
وبكل مشاعري… بكل مشاعري أضحك.
التعليقات مغلقة.