الشك كمنهج بين الغزالي وديكارت…مبحث تتناوله الدكتورة آمنة الهجرسي
في هذا البحث سأتناول منهج الشك عند كل من الغزالي الفيلسوف العربي وديكارت الفيلسوف العالمي الشهير وسأحاول شرح كيف أن العلماء العرب والمسلمين سباقون في الافكار والآراء ووضع المناهج وأن علماء الغرب وفلاسفتهم استفادوا من هذه الآراء كثيرا وتأثروا بها وأضافوا إليها ولهذا سأقارن بينهما قدر المستطاع ..
إن أهمية التفكير في علاقة الغزالي بديكارت تكمن فيالتأكيد على وحدة المعرفة الإنسانية، وأن البشر يتأثرون ببعضهم البعض وأن التفكير البشري بصفة عامة يكاد يكون واحدا إذا ماقام على أساس بنية سليمة وفطرة سوية ..ولهذا نجد العديد من الآراء العربية الإسلامية تم استيعابها في الفكر الفلسفي الغربي والتعاطي معها وفهمها والعمل بها لقيام نهضة فكرية وحضارية كبيرة.. وهذه الأفكار والآراء تستحق أن نلقي الضوء عليها بالبحث والدراسة لنؤكد على ما كان للحضارة الإسلامية العربية من دور كبير في نشر العلوم والأفكار الحضارية البناءة …
لقد عاش الغزالي في فترة مليئة بالتطاحن الفكري والعقائدي وتعدد الفرق والمذاهب فاختلط عليه الأمر والتبست الأقوال وأحوال الناس فأخذ يبحث بنفسه عن الحقيقة في أنقى صورها فلم يجد أمامه سوى أن يؤسس لنفسه منهجا يسير على هداه وكان هذا بداية الفلسفة لديه لأن وضع المناهج هو أداة من أدوات البحث في الفلسفة ،ولهذا نجده ألف أكثر من مؤلف في هذا الصدد وتصدى لعلوم عصره وعلمائه فناقشها بصورة علمية منظمة ونشر أفكاره في مؤلفاته التي تعكس بعد نظر وفكر صائب….
أما ديكارت الذي عاش في وقت تعاني فيه العلوم المتاحة في عصره من القدم والثبات الذي منحها إياه المصرون على الاحتفاظ بالقديم وتقديسه فأخذ بنقدها كما فعل الغزالي وحاول جاهدا وضع منهج علمي سليم يصلح لقياس العلوم ووضع حلول لها وهنا تلاقى العالمين في فرضية الشك كمبدأ للوصول إلى الحقيقة في نهاية الأمر…
إن الإحاطة بحيثيات المنهج عند كل من هذين العالمين الكبيرين تحتاج إلى الخوض في تفصيلات دقيقة لا يسع لها مجال هذا البحث المصغر ، كما أن عملية المقارنة بينهما أيضا قد اتخذت أبعادا مختلفة فالبعض يتهم ديكارت بالسطو على أفكار الغزالي من خلال المترجمات اللاتينية والبعض يرى أنه تشابه طبيعي بين العلماء من البشر على اعتبار أن أساس الفكر الإنساني على مستوى الفطرة واحد والبعض يقف في منطقة البين بين في انتظار الدليل على أن ديكارت نسب إلى نفسه أفكار الغزالي من عدمه… وسأحاول هنا إلقاء الضوء على أساسيات منهج الشك عند كل منهما وتسجيل أهم نقاط التشابه بينهما…
المبحث الأول : الشك كمنهج عند أبو حامد الغزالي
اشتهر الإمام «أبو حامد الغزالي» بردوده القوية على فلاسفة عصره، حيث انتقد أفكارهم وفندها، ورأى أن انتشار مناهج الفلاسفة وسط الناس قد سبب تشككهم في الدين وأدى إلى الانحلال الأخلاقي، لذلك قرر الغزالي أن يعكف على دراسة المناهج الفلسفية لكي يتسنى له الرد على بصيرة فخرج بكتبه الشهيرة «مقاصد الفلاسفة» الذي بين فيه المناهج الفلسفية وقسمها، وكتابه «تهافت الفلاسفة» الذي رد فيه على بعض فلاسفة المسلمين بعنف وصل به إلى اتهامهم بالكفر والابتداع، ولكن مع ذلك كانت كتبه من أول الردود العلمية والموضوعية التي قاومت الفكر بالفكر، حيث نقد أفكار الفلاسفة بشكل تفصيلي وتحليلي بل وفلسفي، ليحمل فكره طابعًا فلسفيًّا رغمًا عنه بحيث يمكن القول إن هناك فلسفة فكرية خاصة وضعها الغزالي وهو الأمر الذي يبينه العقاد في هذا الكتاب الصغير.
ويصف العقاد طريقة الغزالي في عرضه لأفكاره وإعمال الفكر والمنطق في مناقشاته بقوله: ” ناقش الفلسفةبالفلسفة، وحطم السلاح بسلاح مثله، بيد أنه أنفذ وأمضى،فهو على هذا فيلسوف أقدرمن الفلاسفة الذين أبطلحجتهم، أو هو فارس في هذا الميدان أو في عدة من سائرالفرسان، ولو أنه تصدى لهذه الصناعة بغير أداتها لماوضحت حجته بين الحجج ولا استطاع أن يكشف بطلانهمولو كانوا مبطلين.”()
لقد مرّ الغزالي بالعديد من المراحل الفكرية في حياتهقبل أن يسير في طريق التصوف حيث بدأ مرحلة التصوفبالكثير من الشك ، مما دفعه لأن يبحث ويستقصي لمدةشهرين حتى استقر على الصوفية، ثم تفرّغ لدراسةالمعتقدات والأفكار، ومطالعة العديد من كتبهم ومن ثم أسس لنفسه منهجا يسير عليه ووضع قواعد لهذا المنهج والتي تعكس نظرة عميقة لهذا الكون وتطوره ولأنها تتعلق بمسائل فلسفية أساسية لم يتنبه لها الكثيرون من القدماء فكان بذلك فريدا في عصره().
– قواعد الشك المنهجي عند الغزالي:
لقد بدأ الغزالي طريقه بمقولة (الشك بداية طريق اليقين) ولهذا قام بفرض شكه في العقائد الدينية الموروثة في زمانه ،ورد على أغلب الفِرق المتناحرة آنذاك ؛ لأن كلًا منها يزعم أنهالناجي الوحيد، بل وقد رد حتى على مذهب الأشعرية الذيتبناه ، وكذلك فعل مع المغالين في الصوفية، فانطلق بمنهجهالعلمي الشكي كمصباح ينير له عقله تجاه كل ماسبقوالمشاكل الفلسفية ، ففي العقيدة الدينية وجد أنها تنتقلإلى الإنسان عن طريق التقليد ، وبالتالي فإن الفرد ينشأوفقاً لملته التي يعتنقها أبواه. ولذلك قال النبي محمد صلىالله عليه وسلم “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أوينصرانه أو يمجسانه”. فمسألة التقليد ليست يقيناً ولا تقودإلى حقيقة الفطرة الأصلية التي تميز بين الحق والباطل. أضف إلى ذلك أن هذه “الفطرة الأصلية” هي واحدة عندكل البشر.
إن الشك الفلسفي الذي انتهجه الغزالي هو بداية السلوك الفلسفي الصحيح الذي يعد وسيلة للبحث عن الحقيقة،ويختلف بذلك اختلافاً جوهرياً عن الشك الإرتيابي الذييغلق على نفسه دائرة لا يريد الخروج منها، ولا يعترفبإمكانية هذا الخروج. فكيف بدأ كل من الغزالي وديكارتالشك؟
كانت الفلسفة في عصر الغزالي قد أثرت في تفكيروسلوك الكثيرين، وأدى ذلك إلى التشكيك في الدينالإسلامي والانحلال في الأخلاق، والاضطراب فيالسياسة، والفساد في المجتمع وبالتالي نهض الغزالي ليتصدى لكل هذه الأفكار العقيمة والرؤى العمياء ولهذا رأى أن الشك في جميع المعارف التي يتلقاها المرء أمر ضروريلبلوغ الحقيقة ، يقول في “المنقذ من الضلال”: “… أتفحصعن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة،لأميز بين محق وباطل” (). وقد انتهى من ذلك إلى أن سببالآفة هو التقليد والتلقين، لذلك وجب الشك في ما ينتج عنهمامن معارف، وهو لم يشك في العقيدة، وإنما شك في طرقتلقينها وتعليمها. فهو يقول من جهة: “رأيتُ صبيانالنصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبياناليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لانشوء لهم إلا على الإسلام”()
ويناقش الغزالي الحواس بسبب خداعها ويشرح ذلك بالتفصيل ليصل إلى أن التخلص من التقليد والتلقينوالتسلح بالشك الموصل للحقيقة ليس كافيا، فظهر أن عدوالحقيقة الآخر هو الحواس. يقول الغزالي في “المنقذ”: “منأين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر، وهي تنظرإلى الظل فتراه واقفا غير متحرك وتحكم بنفي الحركة؟… هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحسبأحكامه ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا لا سبيل إلىمدافعته. فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا”() ويمكن عرض منهج الغزالي في الشك في صورة مختصرة كالتالي:
1- الشك المنهجي في كل أفكار عصره وعدم قبول تعددالحقائق لأن الحقيقة لا بد أن تكون واحدة.
2- القيام بعمل فحص لكل ما عرضوه من علوم واحدا واحدا فبدأ بعلم الكلام ثم الفلسفة ثم تعليمات الباطنية ثم أحوال المتصوفين وهو يبحث فيما لدى كل طائفة من مميزات وعيوب مستخدما عقله ومتسلحا بالعلم والسير على طريق المتصوفين لأنهم أصحاب أحوال ويقين بالله ” فعلمت يقينا أنهم أرباب أحوال ، لا أصحاب أقوال وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم بل بالذوق والسلوك ..”()
3- المراجعة والتفكر ومراجعة الأحوال وتصفية الذهن من العلائق ..
4- التوثق وعدم التسرع في رأي أو حكم ” وأكثر الغلط يكون في المبادرة إلى تسليم مقدمات البرهان على أنها أولية ، ولا تكون أولية ، بل ربما تكون محمودة مشهورة ، أو وهمية ..”
5- التأكد من عدم التناقض كما وضح في كتابه ” معيار العلم “..
وبعد عملية بحث وفحص ودراة واستقصاء دامت عشر سنين نجده يهتدي إلى طريق المتصوفين ” أني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السير وطريقهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق …”()
المبحث الثاني :الشــك كـمنهـج عند ديـكارت
إن الفلسفة في رؤية ديكارت هي دراسة الحكمة : ” إنكلمة فلسفة تعني دراسة الحكمة، ولسنا نقصد بالحكمةمجرد الفطنة في الأعمال، بل معرفة كاملة بكل ما في وسعالإنسان معرفته بالإضافة إلى تدبير حياته وصيانة صحتهواستكشاف الفنون، ولكي تكون هذه المعرفة كما وصفنا،فمن الضروري أن تكون مستنبطة من العلل الأولى. “() فهي في رؤيته شجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها العلم الطبيعي وأغصانها باقي العلوم وهي ترجع إلى ثلاثة كبرى كما يذكر يوسف كرم هي الطب والميكانيكا والأخلاق.. وهي أي الفلسفة العلم الكلي كما هو الحال عند القدماء ولكن ديكارت يهتم أكثر بالعمل والنظر فيما يوفر له مبادئه ولهذا بحث عن منهج يوفر له هذه المتطلبات.. ولقد قام ديكارت بنفس الطريقة التي قام بها الغزالي فنظر في المناهج المتاحة ونقدها .. ويقول يوسف كرم : ” فالمنهج عند ديكارت يبينالقواعد العملية التي يجب اتباعها لإقامة العلم، ولا يحللأفعال العقل ولا يدل على صدقها ومواطن الخطأ فيها كمايبين المنطق، فإن هذا التحليل عديم الفائدة في رأي ديكارتوبيكون وأضرابهما، وإن المنطق الطبيعي يغني عن المنطقالصناعي، وبينما المنطق علم وفن معًا، نجد المنهج عند هؤلاءالفلاسفة فنٍّا فحسب، وإن يكن منطويًا على نظرية في العقلوالعلم كما سنرى في عرض فلسفة ديكارت، فإن هذهالنظرية متمشية على هذا المنهج ومؤسسة له، والعلم إذنعند ديكارت استنباطي يضع المبادئ البسيطة الواضحةويتدرج منها إلى النتائج، أو هذا ما يدعيه ديكارت….”
لقد اعتمد ديكارت في شكه على رؤية ونهج شديد الشبه بما قام به الغزالي من قبله ، وكان هدفه الأول البحث عن الحقيقة ولهذا وضع قواعد أربعة هي مجمل منهجه في الشك للوصول إلى اليقين فقد بدأ بتحليل المعرفة أو البداهة والقياس () و ” صمم ديكارت عزمه على أن يعرف كيف يعمل العقل في طريقة البرهان الرياضي أي أنه عزم على أن يحلل المنهج الرياضي إلى عناصره العقلية .”() ثم رتب قواعده كالتالي :
– قواعد الشك المنهجي عند ديكارت :
أولا : اليقين أو الوضوح واليقين ” ألا أقبل شيئا على أنه حق ما لم أعرف يقينا أنه كذلك “()
ثانيا : التحليل حيث يقول ديكارت : ” ينحصر المنهج بأكمله في أن ننظم ونرتب الأشياء التي ينبغي توجيه العقل إليها لاستكشاف بعض الحقائق ..”()
ثالثا : التأليف أو التركيب : ” أن أُسيِّر أفكاري بنظام ، بادئا بأبسط الأمور وأسهلها معرفة كي أتدرج قليلا حتى أصل إلى معرفة أكثرها تركيبا .”
رابعا : الاستقراء التام أو الإحصاء أو التحقيق وهو يعرضها كالتالي : ” أن أعمل في في كل الأحوال من الاحصاءات الكاملة والمراجعات الشاملة ما يجعلني على ثقة من أني لم أغفل شيئا”
وفي النهاية وانطلاقا من قوله ” أنا أفكر ” توصل ديكارت إلى يقين يؤكد على كونه كائن مفكر وأخذ يبحث عن الشروط اللازمة لذلك وبدأ يبحث في تأملاته ” وانطلاقا من ذلك ، يبدو لي أنه أصبح باستطاعتي أن أضع قاعدة عامة ..”
ويرى الدكتور مصطفى غالب أن فلسفة ديكارت ومنهجه في الشك ينطلق من العقل الذي يسبر أعماق المعرفة والعلم وأنه جسد المثل الأعلى للوجود الإنساني وأنه حقق وعي الإنسان لذاته ولوجوده في هذا العالم بحيث يرد جميع آرائه إلى منطلقات وأفكار واضحة مثالية، ويرى أنه تجنب المبادىء العامة وهو يضع قواعد منهجه الذي خطط له ، وأنه بأسلوب عملي قام بسبر أعماق الرياضيات والطبيعيات والإلهيات وعلم الروابط الموحد .
وكان ديكارت رياضيا فيلسوفا ومفكرا عظيما حيث يعد مؤسسا للفلسفة الحديثة وقد وضع خلاصة منهجه في الشك في كتابيه ” مقال في المنهج “و” التأملات ” وهما يتداخلان تداخلا كبيرا ويشرحان بالتفصيل دقائق نظرية المعرفة عند ديكارت ” أنا أفكر إذن فأنا موجود “() ويشرح ذلك برتراند راسل قائلا : ” فالأنا التي أثبت وجودها استنبطت من حقيقة كوني أفكر ، ومن ثم فأنا موجود بينما أفكر ، وحينئذ فقط . فإذا توقفت عن التفكير ، فليس هناك دليل على وجودي . أنا شيء يفكر ، جوهر تتألف طبيعته بأسرها أو ماهيته في التفكير ، ولا يحتاج إلى مكان أو شيء مادي لوجوده . ومن ثم فالنفس متميزة تميزا تاما من البدن ، ومعرفتها أسهل من معرفة البدن . ويمكن أن تكون ما هي عليه ، حتى وإن لم يكن هناك بدن .”()
وحول أفكار ديكارت الجديدة على علماء عصره وقرائه وما بثه من أفكار فلسفية حديثة ومتطورة مقارنة بأفكار الفلاسفة في زمانه نجد توم سوريل يشرح لنا مدى صعوبة أن يفهم الجميع في ذلك الوقت ما يرمي إليه ديكارت خصوصا ما شرحه في كتاب ” تأملات فلسفية ” ويرى أنه توقع منهم ما هو فوق استيعابهم : ” غالى ديكارت في تقدير إمكاناتأغلب قرائه المؤيدين له؛ إذ توقع منهم أن يستطيعوا تتبع فقدأساء أتباعُه تفسير الفرضيات ،« تأملات في الفلسفة الأولى» أسلوبه العجيب في كتابه الأساسية الواردة في الكتاب. وجمهوره الذي كان معاديًا لأفكاره ..”()
ولقد أصيب ديكارت بخيبة كبيرة لأنه كان يتمنى من خلال منهجه في الشك ومؤلفاته أن يخلص القارىء من الانصياع لحواسه يقول توم سوريل : “ويحاول ديكارت أولًا أن يُخَلِّصالقارئ من المعتقد بأن حواسه أو خبراته مماثلة للأشياءالتي تسببها. وبعدها يكرِّس فصلًا كاملًا (الفصل الرابع) من خطأ وقعنا في أسره جميعًا منذ الصغر عندما آمنا بأنهما من أجسام من حولنا بخلاف ما يمكن إدراكه بالحواس..”()
أما برتراند راسل فيرى أن منهج الشك النقدي عند ديكارت ذو أهمية فلسفية عظيمة ومع ذلك عظيمة وأن ديكارت قام بتطبيقه في صورة فاترة ومع ذلك هو لا يمكن أن يفضي إلى نتائج إذا توقف الشك عند حد ما ، ويقول أن وقائع ديكارت التي لا شك فيها هي خواطره الخاصة مستخدما ” خاطرة ” في أوسع معنى ممكن لها ( فأنا أفكر)()… وأهم ما يلفتنا في طريقة ديكارت هو مهاجمته للحواس تماما كما فعل الغزالي وقد لاحظ العلماء والفلاسفة العرب كثيرا من التشابه بين آراء الغزالي وديكارت في هذا المجال وقارنوا بينهما …
المبحث الثالث: الشــكالشك كمنهج بين الغزالي وديكارت…
لقد لاحظ العديد من الباحثين والدارسين وجود نقاط شديدة التشابه بين منهج كل من الغزالي وديكارت ، والغزالي عاش قبل ديكارت بزمن ووضع منهجه وأسس له في فترة من أزهى فترات الحضارة العربية ..
ويناقش الدكتور السيد محمد عقيل نقاط التشابه والتلاقي عند كل من العالمين بادئا بعرض لمنهج كل واحد منهما ونقطة الانطلاق التي بدأ بها كل منهما ثم نجده يقوم بعمل مقارنة في صورة منظمة :
1- ناقش موقف الحواس والعقل في المنهجين : حيث يرى أن كلا العالمين اتفقا على مهاجمة الحواس وعدم الاعتماد عليهما إلا بطريقة سليمة لكثرة ما يحدث من أخطاء بسبب سوء الاستخدام .. ” ورأى المفكران أن لكل من الحواس والعقل مجالا وحدودا في الإدراك وهما متعاونان فيه للمعرفة والبحث عن الحقيقة.”() وكان الغزالي يثق بالحواس والعقل معا كوسيلة وكانت هذه الثقة مرتبطة عنده بالثقة بالعقل لأن الحواس هنا هي أداة يستخدمها العقل للإدراك وقريب من هذه الرؤية رؤية ديكارت في فلسفته المفتوحة الحية التي تخضع للتطور الفكري الخلاق() وهي فلسفة الرؤية المباشرة للواقع وفلسفة اليقين العقلي .. فالعقل عند ديكارت هو قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل وللوصول إلى الحقيقة بالعقل عنده لا يكفي أن يكون الفكر جيدا بل يجب أن يطبق تطبيقا حسنا..
2- توجيه النقد للمنطق القديم في المنهجين : فقد درس الغزالي المنطق القديم وكان عالما فيه وأحد رواده وألف فيه كثيرا من المؤلفات واعتبر المنطق منهجا من مناهج التفكير()بينما نجد ديكارت كان ينقد المنطق ورأى أنه غير نافع لتقدم العلم ولا يفي بغرضه وأدى هذا إلى حمله على التفكير في البحث عن منطق آخر ، ويرى الدكتور السيد أن ديكارت لم يتخل عن المنطق تماما وأنه ظل يتأثر به في دراساته()..
ولقد عرف الغزالي المنطق بأنه القانون الذي يميز به صحيح الحد والقياس عن فسادهما وفائدته تكمن في اقتناص العلم لأن العلوم المطلوبة ليست فطرية .. ونجده يؤلف أكثر من كتاب مثل ” معيار العلم ” و” محك النظر” و ” القسطاس المستقيم ” وكلها كتب منطقية وهو في طريقته يُعمل المنطق حتى في رؤيته الصوفية().
أما ديكارت فقد درس المنطق في سن الحداثة وكان يتمنى أن يصل به إلى شيء مما يبحث عنه ولكنه لم يجد شيئا من منظوره ولهذا نقد المنطق الأرسطي :
أ- من حيث التعريف لأنه يرى من الخطأ أن نعتقد أن معرفة الشيء تبدأ بتعريفه فالأدق أن نعرّف المركب بالبسيط وليس العكس كما فعل أرسطو..()
ب- من حيث القياس حيث أنه تأكد من عدم جدوى القياس الأرسطي لأنه يفرض الحقيقة ولا يساعد في البحث عنها ..
ولم يتخل ديكارت عن المنطق تماما بل استفاد من بعض جوانبه ثم بحث عن منهج يجمع فيه بين مزايا الهندسة والجبر والمنطق وفي الوقت نفسه يكون خاليا من عيوبها وبالتالي وضع منهجه وقواعده التي ذكرتها سابقا ….
3- ما هي الحقيقة المطلوبة في المنهجين ؟ : كان كل من الغزالي وديكارت يبحثون عن الحقيقة والتي هي الفلسفة ، والحقيقة التي تنشدها الفلسفة ليست جزئية بل كلية أي كل الحقيقة()، فإذا تتبعنا فلسفة الغزالي وجدنا يبحث في ما يختص بالوجود والخلق وهو يرى أن معرفة الخالق تأتي أولا من معرفة النفس لأحوالها قبل أن تأتي من معرفة الإنسان بالعالم ولكي يرسي الغزالي قواعده الفلسفية كان لا بد من وضع منهج فوضع المناهج هو أول أداة من أدوات التفلسف()، وديكارت يتفق مع الغزالي في هذا الجانب أيضا حيث يبحث عن حقائق كثيرة في العلوم والفلسفة والبحث عن الحقائق الجسمية والروحية والحقائق الإلهية …
4- على مستوى التأمل : يرى الدكتور السيد محمد عقل في دراسته المقارنة أن كلا العالمين قد اعتمد على التأمل اعتمادا كبيرا ، فقد كانت تأملاتهم خصبة وقدمت لهما العديد من الأفكار التي أسهمت في بلورة منهج كل منهما … ويقسم الباحث التأمل عند الغزالي إلى نوعين : الأول فكري فلسفي والثاني ذوقي صوفي ، فالأول يشمل التفكر والتذكر و الاعتبار و النظر والتدبر() …والتأمل طريق للوصول إلى الله في رؤية الغزالي الفلسفية…
أما النوع الثاني من التأمل عند الغزالي فهو الذوقي أو الصوفي وهو يرتبط بتهذيب النفس والأخلاق وتصفية القلب وتنقيته والتوجه إلى الله عن طريق الاعتزال والخلوة والرياضة الروحية والمجاهدة …وكلا النوعين مرتبطين ببعضهما أي أنهما لا ينفصلان أثناء بحث الغزالي عن الحقيقة …
ويلاحظ الباحث أن الغزالي كان يهمه الجمع بين التأملين فهما غير منفصلين في حقيقة الأمر: ” ولقد جمع الغزالي بين التأملين في صورة واضحة يكون التأمل الفكري فيها مدخلا للتأمل الصوفي للوصول إلى الحقيقة وهي :
الأولى : التذكر وهو إحضار المعرفتين في القلب .
الثانية : التفكر وهو طلب المعرفة المقصودة منهما .
الثالثة : حصول المعرفة المطلوبة عما كان بسبب حصول نور المعرفة .
الرابعة : تغير حال القلب عما كان بسبب حصول نور المعرفة.
الخامسة : خدمة الجوارح للقلب بحسب ما يتجدد له من الحال. ()
وكما أن الغزالي كان حريصا على التأمل مدركا لقيمته وفوائده كان ديكارت يدرك هذه القيمة الكبيرة له ولهذا سمى أحد مؤلفاته بــ ” التأملات ” ولهذا لقب بفيلسوف التأمل ()لأن كتابه هذا يعد من أهم كتب الفلسفة الديكارتية خاصته..
و من تأملات ديكارت الميتافيزيقية يمكننا ان نفسر فلسفة ديكارت لأنها تشمل جميع العناصر الأساسية في مذهبه فهو يرى أن كل ما نضيفه إلى هذه التأملات متهو إلا إيضاحات أو إضافات لا تتعارض مع أساس التأملات التي وضعها ، ثم إنه يعتبر هذه التأملات مدخلا ضروريا لكل فلسفته ، ولقد استمر ديكارت طوال حياته يفسر هذه التأملات على حد تعبير الدكتور السيد محمد عقل في دراسته المقارنة ، وهو يرى أن اختيار ديكارت للتأملات وأسلوب عرضها كان لأن شكل التأملات هو الشكل الذي يتم فيه التوافق بين التحليل السيكولوجي للافكار والتحليل المنطقي لها في هذه الفسلفة ويعقب بأن ميتافيزيقا ديكارت تستند أساسا إلى التحليل وكل ما تستلزمه من تأليف أو تركيب إنما هو نتيجة هذا التحليل()
5- مجال استخدام المنهجين : لقد استخدم الغزالي منهجه لاختبار مناهج المذاهب والفرق الموجودة في عصره كالمتكلمين والفلاسفة والباطنية والمتصوفين واختبر ايضا وسائل المعرفة وانتهى به البحث إلى اليقين في حقيقة المناهج والوسائل() ومن خلال هذا المنهج أيضا بحث في حقيقة الفطرة والمكتسبات التي يمليها الوالدين وكذلك استخدم هذا المنهج في تصحيح أخطاء العلماء في عصره وكان يعتمد على المنطق كثيرا في ذلك ..
أما ديكارت فقد استخدم منهجه في العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفة من أجل البحث عن الحقيقة لأنه وجد نفسه أمام تراث قديم وبالي ولهذا رفض المنطق وبحث عن منهج آخر ووضع فكرة اليقين…
لقد اهتم العديد من الباحثين والدارسين في البحث عن حقيقة التشابه الكبير بين المنهجين وقواعدهما التي تكاد تكون متطابقة تماما وانقسموا إلى عدة فرق فالأول منها يرى تشابها بين أفكار ومنهج كل من ديكارت والغزالي وأن ديكارت تأثر به عبر اطلاعه على الوثائق المترجمة له والفريق الثاني يرى أن ديكارت لم يتأثر به وفريق ثالث يرفض إبداء الرأي في الموضوع حتى يظهر دليل واضح على التأثر من عدمه….
الخـاتـمــة
بعد استعراض منهجَيْ الشك عند كل من الغزالي وديكارت خلصت الطالبة إلى أن هناك تشابه كبير بين المنهجين على مستوى الفكرة الأساسية للمنهج وهي اعتبار الشك كمبدأ للوصول إلى اليقين الذي هو الحقيقة وقد وضع كل منهما أسسا وقواعد يسير عليها بعد أن قام كلاهما بانتقاد العلوم في عصره وبيان ما بها من خلل وعيوب وبالتالي ظهرت الحاجة إلى استخدام منهج علمي سليم يسير الباحث عن الحقيقة وفقا لخطاه .. ولكن كان لابد لهما أن ينقدا الحوا والاعتماد الخاطىء عليها وعلى ما درج الناس في التعامل وفقا له فليس كل ما يلقنه لنا الجميع وبخاصة الأبوين يكون صحيحا دائما ، وعليه توصل العالمين – وهنا كانا شديدا التشابه حد التطابق – إلى ضرورة تنقية الحواس واستعمالها كأداة عقلية في سبيل الكشف عن الحقيقة والتوصل إليها في صورة يقينية لا تقبل الشك ..
وقد لاحظ العلماء أن الشك عند الغزالي قد أوصله إلى إدراك الحقائق الكبرى والوجودية وأنه رأى كما شرح بالتفصيل في مؤلفاته أن طريق المتصوفة العارفين و أفضل طريق لأنهم يعتمدون على التخلية التي هي تنقية الداخل تماما من كل شيء فإذا حصلت سدوا الفراغ بما هو مفيد يقبله العقل ويقره الفكر ومن يحصلون على التجلي الذي هو غاية كل طريق يبحث طالبه فيه عن الحقيقة .. أما ديكارت فقد قام بنفس ما قام به الغزالي من نقد للحواس وبيان سوء استخدامها والطريقة المثلى التي يجب أن تكون عليها ليستعملها العقل في بحثه عن اليقين ومن ثم الحقيقة وتوصل إلى حقيقة وجوده ” أنا أفكر فأنا موجود ” وأضاف الكثير إلى قواعده الأربعة ليحل العديد من المشكلا التي واجهته في علوم الهندسة والرياضة والفلسفة ويعده علماء العصر الحديث مؤسسا للفلسفة الحديثة بفضل أفكاره الفلسفية وآرائه الدقيقة في مناهج البحث وإن خالفوه في بعض الدقائق فهذا طبيعي..
يتفق الغزالي مع ديكارت في مسألة الاعتماد على التأمل الذي يقوم على التفكر والتدبر والتذكر والملاحظات الدقيقة وتسجيلها وإجراء الاختبارات المنهجية عليها بينما يختلفان بطريقة أو أخرى في اعتماد علم المنطق ، فقد كان الغزالي منطقي بالدرجة الأولى بينما ديكارت لم يعتمده إلا في بعض الأمور الصغيرة وكان قد وجه نقدا لمنطق أرسطو مما يعكس أنه لا يعتمد عليه في منهجه الشكي وقواعده الأربعة…
وفي النهاية فإن ما تركه لنا كلا العالمين أثر كثيرا في الفكر العالمي وكان له بالغ الأثر في تطور الفلسفة والعلوم المنطقية فيما بعد وحتى يومنا هذا ..
المصادر والمراجع
1- علي المهدلي – السيد محمد عقل : المنهج الفلسفي عندالغزالي وديكارت للوصول إلى الحقيقة ، دار الحديثللطباعة والنشر القاهرة الطبعة الثانية
2- سوريل – توم : ديكارت ( مقدمة قصيرة جدا ) ترجمة د. أحمد محمد الروبي ، منشورات هنداوي الطبعة الأولى2014م
3- ديكارت – رينيه : مقال في المنهج بترجمة محمود محمدالخضيري ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ( روائعالفكر الإنساني ) الطبعة الثانية 1968م
4- مقال في المنهج : ص :95 وكذلك : روديس لويس – جينفياف : ديكارت والعقلانية ترجمة عبده الحلو ،منشورات عويدات بيروت – باريس الطبعة الرابعة 1988م
5- غالب – مصطفى : ديكارت ، منشورات دار مكتبةالهلال 1989م6
6- راسل – برتراند : تاريخ الفلسفة الغربية الكتاب الثالث( الفلسفةالحديثة ) ترجمة الدكتور محمد فتحي الشنيطي،الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977م
7- الغزالي – أبو حامد : معيار العلم في المنطق ، بشرحأحمد شمس الدين ، دار الكتب العلمية – بيروت الطبعةالثانية 2013م
8- الغزالي – أبو حامد ، ميزان العمل بتحقيق الدكتورسليمان دنيا ، دار المعارف الطبعة الأولى 1964م
9- كرم – يوسف : تاريخ الفلسفة الحديثة ، مؤسسةهنداوي للتعايم والثقافة ، طبعة 2012م
10- العقاد – عباس محمود : فلسفة الغزالي ( محاضرة ) مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة 2013م
11- الغزالي – أبو حامد ، المنقذ من الضلال والموصل إلىذي العزة والجلال ، بتحقيق الدكتور كامل صلبية والدكتوركامل عياد ، دار الأندلس ( بيروت – لبنان ) الطبعة السابعة 1967م
التعليقات مغلقة.