إطلالة في سطور “7” للناقد الفني الدكتور “عبد الحميد سحبان” على رواية “ريان أيقونة ألم” للكاتب المسرحي المغربي “سعيد غزالة”
إطلالة في سطور “7” للناقد الفني الدكتور “عبد الحميد سحبان” على رواية “ريان أيقونة ألم” للكاتب المسرحي المغربي “سعيد غزالة”
سنتحدث في هذه الإطلالة اليوم عن موضوع “الألم” كمحور رئيس لحكاية “مونولوجية” مطولة قيد الطبع، أثارتني كثيرا بطريقة مقاربتها لحادث أليم انتشر في العالم مخلفا الكثير من الأسى والحسرة.
إن تاريخ الثقافة إن صح التعبير، هو أيضًا تاريخ الألم، الذي يتحدد من خلال مظاهر المعاناة أو المأساة. فهو موجود أيضًا بمعنى أوسع لأنه غالبًا ما يكون الأصل الخفي للإبداع الفني دون الإفصاح عن هويته. ومن النادر أن يكون الألم المحور الأساس أو الفكرة المهيمنة1، كما هو الأمر بالنسبة لهذا العمل الأدبي موضوع هذه الورقة النقدية.
لقد تمكن الكاتب من جعل “الألم” موضوعا لعمله والذي أراه [رواية] بالمعنى اللغوي للكلمة بعيدا عن المعنى الاصطلاحي لها كجنس أدبي خالص، لذلك سأضعها بين معقوفتين.
النص الذي بين أيدينا حكاية مطولة بنفس مسرحي بارز عبر حوار داخلي مسترسل، ولعله فينظري أطول “مونولج” صادفته، كتب بأسلوب متميز من حيث حبكته ومقاربته للحادث الذي أسس الكاتب من خلاله “لأيقونة ألم” يتيمة فريدة، دفعتني إلى القيام بهذه المقارنة بينها وبين رمز رائد من رموز الألم في الأدب الغربي.
1- “بروميثيوس”2المقيد بالسلاسل و “ريان” الملفوف بالتراب
وبعبارة أخرى، انتقل بنا الحادث المأساوي موضوع [الرواية] من الألم المشهدي إلى الألم البعيد عن الأنظار. وللتذكير يمثل “بروميثيوس”، كبطل أسطوري، “مشهدية” الألم لأنه يظهر مقيدا بالسلاسل فوق صخرة بأعلى الجبل، يأكل نسر عملاق من كبده كلما اكتمل نضجه، في حين يمثل “ريان”، كبطل حقيقي، الألم “المدفون” في عمق جب ضيق يعيق التراب حركته ورشاقته. وإذا كان البطل الأسطوري يرمز في الحضارة الغربية إلى قمة من قمم الألم، فإن البطل الواقعي بالنسبة لحضارة الجنوب المتوسطي يمثل سقفا عاليا من هذه الرمزية، هذه المرة بواقعية مريرة وليس بشكل تخييلي أسطوري وجمالي.
2- المشترك والمختلف بين “الأيقونتين”
الأول رجل قوي ببنية جسمية صلبة، والثاني طفل صغير يحمل اسما عربيا يعني فيما يعينه الاكتناز والبدانة، كدلالة ترمز إلى وجود كتلة وهامش من قدرة التحمل لديهما، علما أنها بالنسبة للثاني مجرد استطراد لغوي لا أقل ولا أكثر.
الأول فوق قمة جبلية تتمازج فيها المعاناة بجمالية الموقع الخلاب كدافع دامغ وراء انتقال مشهد الألم الأسطوري إلى عالم الجمال والفن التشكيلي من خلال لوحة الفنان الفرنسي “غوستاف مورو” الشهيرة. الثاني تحت التراب في حفرة جد ضيقة وسحيقة اختلطت فيها كل أشكال الدمامة فضلا عن فظاعة الطمس والوأد. صورة شنيعة قد تشكل تحفة نادرة من فن القبح والبشاعة.
الأول سينقذه “هرقل” ذي القوة الخارقة، الثاني ستنتشله جرافات عملاقة بقوة “هرقل”، الأول سيتم إنزاله من القمة والثاني سيتم الصعود به من تحت، سيُنْقَذ الأول كاعتراف بحبه وتضحيته من أجل سعادة الإنسان وسينتشل الثاني في سورة إحباط وأسف الناس عليه لقسوة الإهمال الناجمة عن تكالب ظروف القهر والتهميش المحيطة بالمكان والزمان.
بعد هذه المقارنة البسيطة بين رمزي الألم، نتفق مع صاحب النص أن الثاني “أيقونة ألم” بكل المقاييس، أنتجت نموذجا سيزيح البطل “بروميثيوس” عن عرشه فاتحا المجال “للطفل المغدور” لحمل المشعل الأولمبي في سباق المعاناة في انتظار ظهور بطل جديد في تاريخ الألم والقهر.
3- “الألم” الجسدي للضحية و”الألم” النفسي للجمهور
الألم هو معاناة جسدية ونفسية توزعت في هذه الحكاية بين البطل والمتعاطفين من حوله. الجانب الجسدي منه للطفل القابع في العمق بين سندان الظلمة ومطرقة غبار التربة، وفي شطره النفسي مع كل الناس الذين تعاطفوا واهتزوا لهول الحادث وقساوته على صبي صغير. إنه معطى يزيد من فظاعة القيمة الرمزية للنموذج الذي أنتجه بؤس ظروف جنوب المتوسط، لأن الألم لم يكن فقط كمشهد يتتبعه الفضوليون بحاجز شعوري واضح بين المتألم والمتفرج، كما يقع في الساحات العمومية على مر العصور حيث تتم مسرحة تعذيب المحكومين بتحول ألمهم لفرجة للجمهور بدون أداء. الألم في هذه الواقعة أصبح مشتركا بين المعذب (الطفل) والمتعاطفين (كل المهتمين بالحادثة). لقد اخترق الألم الجسدي لـ”ريان” نفوس الناس فأحدث لديهم ألما نفسيا بحكم تظافر ظروف التشديد، من قبيل أن الضحية طفل صغير في مقتبل العمر، وأن آلة الجريمة حفرة سحيقة ضيقة تعيق الحركة ولا تسمح للواقع فيها حتى برقصة الموت يؤديها على الرغم مما فيها من معاناة، لكن على الأقل تمنح للضحية المسافة اللازمة لإتمام احتضاره بكل كرامة، وهو ما حرم منه “ريان المغبون” بلغة [الرواية].
4- حلم مبطن بالألم
من المفارقات المميزة لهذا العمل الأدبي أن الألم فيه اخترق الحلم، حلم الطفل وحلم المتعاطفين، ولم يترك له المجال أن يتجسد؛ ولو علي سبيل التخييل؛ فكانت النجوى النفسية للطفل تسير بنا بالتدريج نحو الأمر الواقع على مرارته، بأن اقتنع البطل والراوي معا بضرورة الخلاص من الألم الجسدي الذي يتم عن طريق إفراغ الجسد من عنصر الحياة فيه “الروح”، التي حلقت فوق مكان الحادث معلنة نهاية المأساة بإعلان وفاة الطفل ونهاية حلم المتعاطفين كذلك.
5- أمل ينكسر على صخرة واقع مرير
نفذ الكاتب بشكل لافت إلى شخصية الطفل الموؤود، بأن عَمِل من جهة على تخفيف ألمه الجسدي بإدخاله في عالم تخييلي لا متناهي، وبأن كان من جهة أخرى شاهدا على قدرة هذا الحادث الفريد، لمَّ شملَ القلوب كبذرة خير لا زالت راقدة في قرارة الإنسان الذي بالرغم من كل ظروف التذمر والانحدار النفسي المحيطة بالزمن الراهن، لم تحلْ دون رفع شعار تضامن منقطع النظير لأجل إغاثة طفل صغير من براثن حفرة عميقة ضيقة، لكن النهاية المؤلمة كسرت مطلب أمل إنقاذ الضحية على صخرة الواقع المرير-الذي كان سيدخل البهجة على كل الأفئدة المكلومة- مما سبب فشل كل المجهودات الجبارة التي بذلت من أجل تحقيق هذا الرجاء.
1- انظر المقالة بعنوان: “L’écrivain et sa souffrance, de la douleur au texte ” لصاحبه “Manfred Schmeling “عن الجامعة الألمانية ” Université de la Saare-Saarebruck”، ص 29.
2- نفس المقالة أعلاه، ص 31.
التعليقات مغلقة.