موت مؤجل.بقلم.محمد بلال حجازي
أتعلم مؤخرا تولد لدي إحساس رهيب، لم أتخيل يوما أن يراودني..
أود بشدة أن أصبح شخصا أخر لا يشبهني، أود بجنون أن أغدو شبحا مرعبا، يتسلل بين شواهد القبور، يقرأ أسماء ساكنيها، فيرى شريط حياتهم، يبتسم لأفراحهم، ويبكي لأحزانهم، يستمع ما يتمنونه لو قُدِر لهم وعادوا للحياة.
لابد وأنه يود أن يخبر حبيبته بشيء ما، خبأه عنها بدافع الكبرياء، ولما طال صمته، قُتل ما كان يود قوله.
سأستمع لرسائله الشاحبة لأبناءه الذين رباهم بين جدران منزل واحد، ففرقهم ميراث تَركه.
لا بد أنه تمنى لو يرجع للحياة فيعتذر من جاره الذي آذاه، ومن قريبه الذي فرقه عنه أحاديث النساء، ومن صديقه الذي ما عاتبه، وما سأله عن كلام نقل إليه عنه، وخاصمه دونما بيان ما حدث.
سأذهب هناك حيث زوجين اثنين قضيا عمرا معا، من ثم دُفنا بجوار بعضها، كأنه حب أبدي، وربما قدر إلهي بتصفيه حساب في عالم أخر.
ساذهب لبوابة المقبرة وأسألها كم مر بك من أناس يحملون النعش، وبعدها بمدة كانوا هم المحمولين، ستخبرني بلا شك أنها فتحت أبوابها للجميع وبأنهم ساكنيها جميعا بعد حين.
لكنها ستحدثني بحزن: يزينون منازل دنياهم، ويفسدون مثواهم الدائم، وبينهما لحد تراه بشاهدة وتاريخ فقط.
سأمضي مستمعا لشاب توفي قبل عرسة بأيام، أستمع لوعوده التي قطعها لمحبوبته، من ثم كتبها الله لغيره، وسكن منزله أخرين، وتاه الحب منهما، سأحزن عليه وسأبالغ بالبكاء علي أواسيه.
لربما سأتجنب المرور بقبر صديقي الصيدلي والمهندس، لأن قلبي يتحرق شوقا لهما، وسيحترق بنار عتابهما لي، لأستمع لصراخ شاب سميي، رزق بطفلة أسماها جنى، فيعانقني بشدة أبلغها سلامي، وقبل من جبينها الجبين، وقل لابني كم أعتز به.
لتواسي روحي ابتسامة طيب ورضى وأتكئ على شاهدة قبر كتب عليها اسمي ..
( محمد بلال محمد حجازي ) .. يصيبني الفزع للحظة، لكنني أستكين مبعدا بلاطة لم تبدو ذات وزن لأتمدد راغبا في الراحة الأبدية، لأراني ممدا في منزلي بثوبي الأبيض، والجميع يبكيني، أناظرهم واحدا تلو الأخر، متسائلا ما نفع البكاء الأن؟! ولطالما كدرتم علي حياتي، وبدل أن تملؤوها فرحا، وبهجة تسابقتم لقتل روحي مرات ومرات بأبشع الطرق..
حملت إلى تابوت أخضر، وفي الطريق للمسجد للصلاة الأخيرة، حملني كثيرون يركضون بي، سمعت البعض يشتمني ويشمت بي، وأخرون يذكرون اسمي بخير، والبعض وجدها فرصة للقاء اناس غاب عنهم لمدة فاجتمع بهم ها هنا، وسرقتهم الاحاديث ونسو أنهم في جنازتي.
استووا واعتدلوا ولمثل هذا الحق فانتظروا، فزعت من النداء، حاولت ان أخرج من التابوت وأهرب، لكن لا مفر!!
الصلاة على مسلم ( رباه ارجعون ) .. الصلاة عليه اربع تكبيرات ( رباه أعدني ) بعد التكبيرة الأولى ..
سلم الإمام لحظة أرجوكم ثم فلان تحدثت عنه بسوء يوما وخضت بعرضه لحظات فقط اطلب منه السماح، ءالآن؟!
عدت لأحمل على الأكتاف مجددا، وجلبوا جثتي لجانب قبري الذي أتمدد به، قمت أساعدهم، رفقا بي لا تختلفوا أيا كان من سينزلني القبر لا يهم، فسأسكنه وحدي، لأحاسب وحدي.
الشيخ يدعو، والناس تؤمن، وانا أؤمن معهم، جزاك الله خيرا يا شيخ.
وعلى باب المقبرة اصطف الأقارب ليعزيهم الناس، لحظة فلان يقف ليتم تعزيته بي؟! كان يمر بقربي فلا يلقي السلام وخاصمني بدون سبب، أخرجوه أخرجوه.
اقتربت من صديقي الأقرب أشكو له، لم يكن يرى أو يسمع لي، لكنني شعرت بحرقة قلبه على فراقي فعانقته بشدة.
انتهى العزاء، وبدأ الجميع بالرحيل كل لعمله، وعدت أدراجي إلى قبري وحيدا أستمع قرع نعال الراحلين، فلا ولد ولا بنت ولا زوجة ولا قريب ولا عزيز بقي هنا، والأن أواجه مصيري وحدي، فأنا جيش نفسي وقائدها، أحدهم يربت على كتفي هل جئت؟!
نعم أتيت.
استيقظ فلا زال بالعمر بقية ودع لي مكاني لا تحاصصني عليه، وطردت حتى من قبري..
لأتسأءل كم سنموت مجددا حتى نصل لذاك الممات الأهون مما نحياه بمرات ومرات.
لأستفيق ودمع العينين يجري حسرة على جراح ألمت بنا وتأبى الرحيل.
التعليقات مغلقة.