الأصمعي والمنصور في صفير البلبل.بقلم.مدحت رحال
يصف المؤرخون الخليفة / أبا جعفر المنصور بالبخل .
ولكني أرى أنه الحرص على أموال الدولة ،
خاصة وأنه كان في مرحلة بناء الدولة وتثبيت أركانها .
ولكي يسد باب أعطيات الشعراء وما أكثرهم ،
وما تستنزفه من خزينة الدولة من جهة ،
وليتقي شر ألسنتهم من جهة أخرى .
فقد أعلن أنه سيعطى وزن ما تُكتب عليه القصيدة ذهبا
على أن تكون القصيدة جديدة ( بنت ليلتها ) .
وكان المنصور قد أعد عدته ودبر مكيدة يوقع بها الشعراء ويخرج كما تخرج الشعرة من العجين .
كان المنصور يحفظ القصيدة إذا سمعها مرة واحدة .
وكان له غلام يحفظها إذا سمعها مرتين
وعنده جارية تحفظ القصيدة إذا سمعتها ثلاث مرات .
كان الشاعر يسهر الليالي وهو يكتب القصيدة على لوح كبير من الخشب طمعا في وزن اللوح ذهبا وهو لا يدري ماذا أعد له المنصور من كمين .
فيلقي القصيدة لأول مرة ،
ويكون المنصور قد حفظها فيقول له :
هذه قصيدة قيلت قبل الآن وأنا أحفظها ،
ثم يعيدها كاملة .
وغلامي فلان يحفظها،
ويأتي الغلام الذي يكون قد سمعها مرتين فيعيدها .
ثم يقول المنصور : وجاريتي فلانة تحفظها .
وتأتي الجارية التي تكون قد سمعتها ثلاث مرات فتعيدها .
ويعود الشاعر صفر اليدين وهو في حيرة من أمره .
قصيدته بكر لم يسمع بها أحد ، فكيف حفظها هؤلاء الثلاثة .
وأُسقِط في يد الشعراء .
فطن الأصمعي إلى مكيدة المنصور ،
وقابل المكر بالمكر .
ألف قصيدة غريبة الألفاظ ثقيلة المخارج متداخلة الحروف ،
وكتبها على عمود من الرخام ،
تنكر الاصمعي في زي أعرابي ودخل على المنصور وقال جئتك بقصيدة لم يسمعها أحد .
فقال له المنصور : هل تعرف الشرط ؟
قال : نعم
قال المنصور : هات ما عندك .
ألقى الأصمعي القصيدة : صفير البلبل
لم يستطع المنصور ولا الغلام ولا الجارية أن يحفظوا بيتا واحدا منها ،
أُسقط في يد المنصور وقال :
سأعطيك يا أعرابي وزن اللوح ذهبا فهاته .
قال الاصمعي : ورثت من أبي عمودا من الرخام كتبت القصيدة عليه لئلا تضيع .
أحضروا العمود يحمله الجنود فوزن صندوق الذهب كله .
فطن وزير المنصور إلى مكيدة الأصمعي وقال :
يا أمير المؤمنين ،
ما أظن الأعرابي إلا الأصمعي .
فقال المنصور : أمط لثامك يا أعرابي ،
فإذا هو الأصمعي .
فقال المنصور : ما حملك على هذا العمل ؟
قال : يا أمير المؤمنين ، قطعت أرزاق الشعراء
وعطاياكم هي مصدر رزقهم .
وتنازل الاصمعي عن الذهب على أن يعود الخليفة إلى
إكرام الشعراء .
وهناك من يشك في صحة نسبة القصيدة إلى الأصمعي لأمور منها :
الاخطاء اللغوية والعروضية في القصيدة ،
فضلا عن ركاكة الألفاظ والمعاني .
مما لا يتفق وما عرف عن الاصمعي من فصاحة في اللغة وقوة في الشعر .
كان الأصمعي في عهد المنصور في بداية شبابه ولم يكن قد اتصل بالخلفاء ،
فقد كان في مرحلة تحصيل العلم والتنقل بين البوادي والأعراب
لجمع الأخبار .
أما أنا ،
فإني أشك في القصة نفسها .
فأي صدفة جمعت المنصور والفتى والجارية ،
بحيث أن الأول يحفظ القصيدة إذا سمعها مرة واحدة
والثاني يحفظها من مرتين
والثالثة تحفظها من ثلاث مرات ؟
ثم
فقد كانت الدولة في بداية عهدها وتموج بالفتن والمتربصين بها ويُخشى على الخليفة من غادر أو موتور أو مأجور ،
فكيف يسمح الحرس ورجال الخليفة لرجل غريب أن يدخل ملثما لا تُعرف شخصيته ؟
ورغم كل ذلك فهي قصة طريفة ،
إن لم نخرج منها بغير الترويح فكفى .
وهذه بعض أبيات القصيدة ،
فقد قاربت الثلاثين بيتا
صوت صفير البلبل. هيج قلبي الثمل
الماء والزهر معا. مع زهر لحظ المقل
فكم وكم تيمني غُزَيل عقيقلي
والخود مالت طربا. من فعل هذا الرجل
فولولت وولولت. ولي ولي يا ويللي
فقلت لا تواولي وبيني الؤلؤ لي
ولو تراني راكبا على حمار أهزل
يمشي على ثلاثة. كمشية العرنجلي
تعقيب ،
لا تعجبوا للأصمعي. فكم له من مثل
وكم له من طُرف. تُزيح هم المثقل
مدحت رحال
التعليقات مغلقة.