حلقات مسلسلة : يوميات ناظر المحطة ” ٢ ” بقلم / محمد كمال سالم
وإذا بصوت صراخ وزعيق شديد ( حاسب يا سطااااااا) مكابح عنيفة يخرج على أثرها مهرولا محروس وحضرة الناظر، فإذا بالشاب الأنيق الذي كان يذكره محروس منذ قليل؛ ملقى تحت أحد الأتوبيسات بينه وبين العجلة الأمامية سنتيميترات قليلة، بين تهليلات وتكبيرات الناس وقد توحلت ملابسه تماما وتمزقت سترته من عند كتفيه، يتشبث بحقيبة يده ، لا يريد أن يدعها في حرص واضح، والناس يحاولون إيقافه وهو يصرخ متألما والسنيورة التي تلتقيه كل يوم تتشبث به وتبكي.
يصيح الريس محمد عيسى: إنت يا اسطى جلال صبحتنا بوشك النحس، الراجل مكسور ماحدش يحركه، اطلب النجدة يا محروس…
تجاهد شمس النهار غيوم ذلك الصباح البارد، تتسلل رويدا رويدا إلى الميدان.
لم تلبث تهدأ جوارح الريس محمد عيسى، بعد أن أخذت الإسعاف الشاب المصاب وبعد أن أصرت الفتاة ألا تتركه وأن تذهب معه للمشفى، وحولت نقطة الشرطة الخاصة بالميدان الأسطى(جلال) للنيابة للتحقيق معه في الحادثة.
حتى أتاه اتصال على التليفون، كانت ابنته الكبرى فاطمة تذكره برسوم ومصاريف مشروع تخرجها من كلية الفنون الجميلة؛ فأخذته دهشة:
أنا تركتهم لك ابنتي على ترابيزة السفرة؛ يتحسس جيبه ليتأكد. مافيش حاجة يا بابا!
أخوكي حمدي فين؟ انا صحيت لقيته نزل
_طيب يا بنتي لما أجيلك.
ثم أحد المحصلين(كمساري) يخبره؛ أن هناك لجنة من وزارة النقل للتفتيش على سير العمل بالميدان.
قام مسرعا وتناول الجاكيت الخاص( باليونيفورم) وارتداه وقال للمحصل أأتني بمحروس افندي حالا، ثم راح يلم بواقي الإفطار من على المكتب ويلقيها في القمامة، يعدل من وضع الدفاتر، فإذا بثلاثة رجال أحدهم تبدو على ملامحه الجدية والأبهة وأثنان يتبعانه يدخلون عليه الكشك، يقدمه إليه أحدهما:
مختار باشا وكيل الوزارة رئيس لجنة التفتيش. أهلا وسهلا مرحبا سعادة الباشا وكيل الوزارة، (متلعثما) نجيب شاي سعادتك ولا حاجة ساقعة سعادتك.
هات المنافيستو ودفاتر المواعيد لا ساقع ولا سخن. يفتح له محمد عيسى كرسي المكتب اتفضل يا فندم سعادتك كل شئ جاهز ومتظبط آخر تمام.
والناس بتشتكي من مواعيد الأتوبيسات ليه لما كل شئ تمام؟! يا فندم كله منضبط والله، هو بس شارع الأوتوستراد رابك المرور بسبب بروفات العرض العسكري لاحتفالات حرب أكتوبر ، لكن الباقي كله تمام.
وفين باقي الموظفين اللي معاك؟ معايا وكيل الناظر سعادتك أستاذ محروس هو بيمر في الميدان، وفي تلك اللحظة يدخل محروس مندفعا، حاملا بين يديه كرتونة مجهزة للبيع مثل التي يحملها الباعة الجائلين بها أمشاط وقصافات للأظافر، وولاعات سجائر، وأعواد بخور، ألخ…
يرتبك عندما يشاهد أغرابا مع زميله الذي يبدو عليه الارتباك، يدور حول نفسه، لا يدري أين يخفي تلك المصيبة التي يحملها بين يديه، يوجه إليه وكيل الوزارة سؤالا في حدة:
إنت مين ياراجل انت، وإيه دخلك هنا في مكتب الهيئة، ثم يوجه كلامه إلى محمد عيسى: إنت فاتح المكتب للباعة الجائلين يا أفندي؟! لا والله سعادتك داااا، دااا
طبعا مانتوا فاكرينها طابونة بتتصرفوا فيها كأنها هيئة أبوكم، ثم وجه كلامه لأحد تابعيه، حوله للتحقيق في مكتب تحقيقات محافظة القاهرة واتخاذ الإجراء اللازم معاه ومع وكيله للغياب عن العمل بدون إذن، وانصرف غاضبا يتبعه موظفوه. سقط محمد عيسى منهارا فوق كرسيه، ينظر لمحروس نظرة لوم وعتاب. يضع محروس الكرتونة على المكتب في خجل ويقول: إيه البخت ده؟! وأنا أعمل إيه ياريس وذنبي إيه؟ دي كارتونة صاحبك وجارك وماحدش قاللي إن معاك لجنة تفتيش!
بعض الركاب يتجمعون على شباك الكشك:
مافيش ولا عربية للحي السابع مدينة نصر يا حضرة الناظر؛ بقالنا ساعتين واقفين؟! يا جماعة الطريق مقطوع بسبب العرض العسكري، اركبوا لحد المنصة أو رابعة العدوية واتصرفوا من هناك. أحدهم:
ودا كلام برضو، إنتوا المسئولين المفروض تتصرفوا. يشتاط غضبا حضرة الناظر ويصيح فيهم: لا يا خويا مش مسئولين ولا نيلة، روح للمسئول بجد عن العطلة وعامل عرض بالملايين وموقف حالنا وحارق دمنا، روح واسأله إذا كنت تقدر؛ وسيبنا في حالنا.
يتراشق الجميع ويعلو الصياح والسباب وتبادل الشتائم، يخرج لهم محروس لمحاولة تهدئة الناس ويدفع محمد عيسى الشباك محاولا إغلاقه وهو يبرطم غاضبا:
عدي اليوم ده على خير يارب، أنا مش عارف اصطبحت بوش مين النهاردة؟! ومين بيصبحك كل يوم إلا العبد لله ياريس، كده برضو هي دي أخرتها ههههههه
وحياتك يا سيد تسيبني في حالي دلوقت، عفاريت الدنيا بتتنطط ف وشي من أول النهار. أنا سيد الطويل حبيبك، روق ياريس روق كله بيعدي.
شيل ياسيد الكرتونة دية على جنب وحياتك، وفكرني أبقى أنبه على( الحاج عبد الله) جاري يشوف مكان غير هنا يشيل فيها بضاعته، وكفاية الل حصلنا النهاردة.
الراجل بيعمل أي شغلانه في السر، يساعد بيها بيته جنب مرتبه الل مش مكفيه، واديك شايف البلد بقت مفتوحة على البحري ، وانفتاح من غير قانون وتجارة في كل شئ عملت فوارق غير منطقية بين الناس، وماعادش حد بيقدر غير اللي معاه فلوس وما بيسألش الفلوس دي كلها منين! حسبنا الله ونعم الوكيل. يقطع حديثهما ويدخل عليهما رجل من نقطة الشرطة (أمين شرطة): ريس محمد عيسى؟
خير يا حضرة الأمين؟ جناب الباشا وكيل النيابة عايزك.
يتبع…
التعليقات مغلقة.