أنين ألم عجوز بقلم / بوعون العيد
في إحدى القرى الرّيفية المترامية الأطراف هناك بدوار الرّابعة من بلدية قريقر ولاية تبسة الجزائر ، تسكن عجوز في الثمانينيات من العمر رفقة ابنها الوحيد ، هناك في سفح الجبل من بيت عتيق تراءت صخوره وضّاحة جرّاء العوامل الطّبيعية ، ثَمّة كانت الوُجهة والمقصد صحبة رجل وهب وقته ،ونفسه وصحته لخدمة البؤساء ، والمحتاجين ؛ مفتشا عن بقايا البشر بين غرابيب دُثر الفقر، والعوز والإملاق ، حيث كانت لعدسة عَين القلب جولة عَلّه يدَّكر ، ويُدرك كُنه النّعم، وموفور الصّحة أمام مشهد كهذا . حيث أنَه وبعد صلاة العصر كانت رحلة قصيرة ما فتئت عرّجنا على طريق غير معبدة مِلؤها الاحراش والتّعرجات ، والالتواءات ، ونحن في سيرنا إذ تراءى لنا من بعيد بقايا بيت رُسمت معالمه من ذاك الطَّود الشَّامخ ، أوشئت قل أطلالا تُعيد غابر الأيّام وتَستجدي رَحيل الأهل، والأقارب ، والأحبَّة . وعلى مقربة من البيت ولعلّها مغارة في أدقّ تعبير ؛ تسرَّبت إليّ بقايا أنفاس بشر تنبعث من زواياه لكأنّها حشرجة الرّوح عند تَغَرغُرها ، وكان لصاحبي السَّبق في ولوج البيت … ، بعد نداء وتحيّة بصوت مرتفع إنباء بقدوم شخص ما… ، حيث لم يكن للبيت باب خارجي ولا حتّى سِتار ، بل كان الظَلام يُخيَّم عليه ؟ ، وكان صديقي ينادي( الحاجة على السلامة ر…َاني جِيت كِيما وعدتك )… ! حتى تراءت لي العجوز بقرب من الكانون تتدفأ نارا ؛ أستُعرت من العُشب اليابس وبعض الأخشاب ، وبجانبها صَحن من المعكرونة وملعقة ، لكأنّ حِوارا دار بينهما انتهى برفض الملعقة لما حواه الصّحن بعد تأفّف وتصّجر قائلا : قساوة الجوع ولا مرارة الأكل السقيم ، فاقترب منها صاحبي وحادثها بلغة تلامس الوُجدان وتدغدغ المشاعر ، وتزرع بقايا أمل بعد رحلة شقاء في دار الفناء . قائلا: لقد أحضرت لك بعض المؤن وماتحتاجينه في هذه الأيّام من الشّهر الفضيل ، فردّت قائلة وبصوت مبحُوح: كثّر الله خيركم ، ثم سألها هل عندك ملابس : قالت نعم بفضل الله وما يتصدق به بعض خلقه ، حينها أمْعنت النّـظر مليا فيها وفي البيت وفي وحيدها ، وما تعانيه ويعانيه هو أيضا جرّاء مايقدّمه من خدمات لها ، حيث كان يعيش بين مطرقة المسْغبة ، وخدمة الوالدة الضّريرة ، والتي تكاد لا تبرح مكانها حتّى لقضاء حاجتها ممّا جعل رائحة البيت وقلة النظافة ، وانعدام الاستحمام تعمّ المكان ، ولما قرّرّنا الانصراف ودّعناها على أمل العود مرّة أخرى ، ثَمة خالجني شعور فيّاض همس في أذن نفسي المتأوهة ، لو منّ عليها ربّي بِبنةٍ صُحبة أخيها لكانت أرأف حالا وألطف منظرا ، حتّى وإن جارت عليها عوائد الإدقاع ، فلن تُثني عزيمة ابنتها في منحها نظافتها ومظهرها بما توافر حتى من رثّ الثياب . ونحن نغادر البيت رفقة ولدها تراءى لي جبل أشم يطل على هذه العجوز البائسة ، وهي في مأواها من سفحه ، لكأن لواعج أحزانها ، ومكامن أشجانها تخاطب الجبل قائلة : أيها الطّود الشّامخ لقد اكتسبتْ منك شُموخا، وصَبرا، وجَلدا ، فهي تَرْوي قصّتها من على سفْحك ، ومن الوِهاد ، والنِّجاد ،والبطاح ، والأودية تردِّد ما طواه الزّمن من صفحة أيّامها في رحلتها المُضنية، وهاهي اليوم تنتظر أين سَتبْرد عِظامها ، وتُوسَّـد في أرض شهدت أنينها ، وأوجاعها ، وجوعها وعُريها ، وترَمُّلها ، فكانت من تجاعيد وُجنتيها سطورا خُطّت بِعَبرات اللّوعةِ والأسى .
أيّتها الرّيح لا تعصفي وتُلعلعي وتُزمجري، وتَكلحي في وجهها وتُـعربدي فقد هدأت نفسها بعد مُغالبة الأرزاء ، وخلدت رُوحها للنَوم استعدادا لرحلة البقاء .
أيّتها الطّيور المُهاجرة إلى وطن الدفء ورغد العيش عودي لقد حلّ الربيع ؛ فهي تنتظر نسمته وبهجته ، عودي وغرّدي على مسمعها أغنية الحياة المعنوية ، حُومي حول الدّار واسمعيها شدو ما تبقى من اُُخيلة الرَبيع لقد حلّقت الغربان عاليا ،وحطّت من على الجدران ناعقة ناعبة منذرة بخطر وشيك . وبينما نحن في طريقنا إلى السيارة ، حيث كان ولدها يحادث صاحبي بحرقة ، وألم ومعاناة جرّاء المعاش ، فقد سرقت الأرزاء من عمره زهرته ، وريعانه خدمة لوالده الذي وُسِد في التّرب ، وأمّه التي مازال يخدمها أملا في نيل رضاها ، وفي غفلة من إخوته الذين تناسو أمهم ، وقلبوا له ظهر المِجَنّ ؛ دونما رحمة ولا شفقة ، حيث كان ٱخر كلامه ؛ أنا أموت كل يوم مائة ميتة، وأنتظر رحيلي من دنيا الألم بموتها ، ولعلّه راحتي التي افتقدتها لأكثر من خمسين عاما ، ثم أردف قائلا : جزاكم الله خيرا ، ونفع بكم ، وأعانكم الله على إماطة اللثام عن وجه من سيّجه الإدقاع ، وتجاهلته عيون البشر ، ورماه شلال الحاجة في مصب البؤس ، والشقاء . حينها أقلعنا راجعيْن ، يغمرنا صمت رهيب ، عدا أنفاس ، تعقبها تنهدات ، وتساؤلات كثيرة ، إجاباتها تفني الصّحائف ، حينها تذكرت # الجواهري إذ يقول :
أنا عندي من الأسى جبلُ
يتمشَّى معي وينتقلُ
أنا عندي وإن خبا أملُ
جذوةٌ في الفؤادِ تشتعلُ
التعليقات مغلقة.