قراءة في قصة قصيرة بعنوان: الطائر الزئبقي للأديب اليمني أحمد علي بقلم: عاشور زكي وهبة
أولا: القراءة
العنوان مفتاح النص، ماذا يقصد الكاتب بالطائر الزئبقي؟
يقصد بذلك طائرا لا وجود له إلا في الخيال.
في الأساطير العربية يوجد طائر العنقاء، نُسِجت حوله الأساطير، ويُضرَب به المثل في الشيء المُحال الوصول إليه، يُقال طارت به العنقاء.
وهو يشبه طائر الفينيق عند الإغريق، والرخّ عند الصينيين، سُمِي عنقاء لطول عنقه.
وهو ثالث المستحيلات: الغول، العنقاء، الخلّ الوفيّ.
وفي القرآن الكريم، يقول تعالى في سورة الإسراء:«وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه…» أي ما طار عنه من عمله من خير أو شر يلزم به ويُجازى عليه محفوظ في كتاب يلقاه بيمينه إذا كان سعيدا، وبشماله إذا كان شقيّا.
2.متن القصة
استخدم القاص ضمير المتكلم، وبالتالي فإنه يدمج شخصيته في شخصية بطل القصة فيتلاشى بعدا الزمان والمكان، ونتحسس صوت الشخصية، ونعايش تعرجات مشاعرها، وننتقل بين ماضيها وحاضرها في تناغم وانسجام حتى يصبح الثلاثة في واحد: الكاتب/ السارد /القاريء.
والكتابة بضمير (أنا) من أصعب الأشياء على الكاتب؛ ومع ذلك يجعل القاريء مشدودا للقراءة، يشعره أنه معني بالأمر، ويغرقه في التفاصيل والأحداث أفضل من استخدام ضمير الغائب.
يبدأ القاص سرده ب: أتذكر أول مرة بدأ فيها بإزعاجي…
وبالتالي فإن هذا الطائر كان ولا يزال مصدر إزعاج للبطل، فهو يتطير به، ويتشاءم من حضوره /صوته /نقراته… إلخ.
_ بدا لي طائرا غريبا مألوفا في وقت واحد…
يلتبس أمر الطائر أيضا على بطل القصة، فهو يجمع بين الشتيتين: الغرابة والألفة.
به أوصاف لطيور مألوفة في وطنه الأم كالنسر الذهبي الذي يعد شعارا محبوبا لدى العديد من الدول العربية: مصر، سورية، العراق، اليمن، ليبيا. شعار مصر، رمز الشموخ السوري، جواز السفر العراقي، شعار الجمهورية العربية المتحدة، رمز الانتصارات منذ الدولة الأيوبية، نسر صلاح الدين الأيوبي.
والغراب أول معلم للبشرية، معلم الدفن لابن آدم الذي قتل أخاه… أول جريمة قتل في التاريخ الإنساني.
إلا أن عينيه زرقاوان كعينيّ الزوجة الكندية!
بطل القصة يعايش صراعا ضد الاغتراب الذي يعاني منه أغلب المهاجرين خارج بلدانهم سواء كانوا مجبرين أو مخيّرين.
وجاءه الطائر يوميا بعد حصوله على الجنسية الكندية! هل الطائر رسول من عالمه القديم يضغط عليه كي لا ينسى/ينسلخ من أعرافه وتقاليده ووطنه الشرقي الأم؟!
هل هو نذير له كي لا يندمج في عالمه الغربي الجديد؟!
تبدأ رحلة البطل مع الطائر من اليقين إلى الشكّ، حتى التجاهل التام؛ رغم أنه يتجلى له يوميّا كل صباح، كطائر الفينيق الذي يتجدد بعد احتراقه بالنار من الرماد.
ولم لا يتجاهله؟!
إغراءات العالم الجديد الجاذبة:الزوجة الجميلة،عدالة،استقرار،أمان،الجنسية،العمل، حرية…إلخ.
في حين أن العوامل الطاردة من العالم القديم لا حصر لها: فقر،بطالة، حروب، استبداد، قهر.. إلخ.
ليس لديه خيار إلا الاندماج في الجديد، والانسلاخ من القديم؛ وإلّا هناك أحزاب يمينية مناوئة للمهاجرين تسعى لطردهم من العالم الغربي، لأنهم ـ حسب رأيهم ـ خطر على الحضارة الغربية، ومصدر للتطرف والإرهاب!
في الختام أحيي القاص المبدع أحمد علي بادي على قصته الرائعة متمنيا له دوام التوفيق.
.
الأحد 2023/6/18
ثانيا: نصّ القصة
الطائر الزئبقي
أتذكر أول مرة بدأ فيها بإزعاجي، وقتها استطاع بصوت نقراته انتشالي من غيابة النوم العميق، فأسرعت نحو النافذة لأزيح عنها الستائر وأرى من وراء ذلك، بدا لي طائرا غريبا ومألوفا في وقت واحد؛ كان له منقارٌ كأنه المنجل، وجسدٌ في حجم ولون الغراب، وجناحان حين يفردهما يضاهيان جناحي نسر ذهبي، أما عيناه فكانتا واسعتين بارزتين لونهما يذكرانك بلون أمواج البحر.
في تلك اللحظة انتبهت لي زوجتي الكندية وقالت وهي تنظر إلي في نصف إغماضة ولاتزال ملتصقة بالفراش:
-لم أنت هناك؟
قلت لها بصوت رسمت ملامحه الدهشة:
-طائر عجيب كان ينقر بشكل قوي على النافذة، حتى خشيت أن يلقي بزجاجها على الأرض.
فأسرعت بالنهوض تاركة السرير حتى إذا أصبحت إلى جواري، أخذت تنظر من النافذة وتسأل في فضول واستغراب:
-أين هو؟
-لقد طار بسرعة.. لا أعرف أين ذهب!
رددت عليها وعيناي في تلك اللحظة كانتا قد تحولتا أيضا إلى طائرين صغيرين يدوران في السماء.
حينها ألقت بذراعها العارية على كتفي وقالت وهي ترسم ابتسامة رقيقة على فمها:
-إذن صفه لي.
عادت عيناي من السماء لتحط على وجهها الذي لم يزل مشرقا بابتسامتها، ورحت أصفه لها حتى إذا قلت أن لون عينيه يشبه لون عينيها، توسعت ابتسامتها إلى أن تحولت قبلة على خدي ثم دعتني للعودة إلى السرير، فاستجبت لها؛ كان النوم مازال يتشبث بجفوني من أثر سهرة الأمس التي امتدت حتى وقت متأخر من الليل وكانت احتفالا بمناسبة حصولي على جنسيتي الجديدة.
وفي اليوم التالي جاء أيضا وأيقظني بصوت نقراته فما كان مني إلا أن أيقظت زوجتي:
-أليس! يبدو أنه طائر الأمس هل تسمعين صوت نقراته؟
أخذتني الدهشة حين ردت زوجتي قائلة وهي تحاول تحسس الصوت وتعقد حاجبيها متعجبة:
لا أسمع أي صوت؟
-كيف لا تسمعينه وصوت نقراته يكاد يثقب أذني؟!
قلت مستنكرا، فابتسمت في وجهي قائلة:
-لابأس، لنذهب سويا لمشاهدته.
-نعم.
قلت لها موافقا.
وعند النافذة، طلبت منها إزاحة الستائر برفق وأنا أهمس لها:
-مازال ينقر على الزجاج، هل تسمعينه الآن؟
ردت بنفس صوتي الهامس:
-غريب.. لا أسمع! لكن لنر.
وما أن أزاحت الستائر حتى أشرع جناحيه وطار بشكل خاطف، عنئذ صرخت وكأني طفل يشاهد شيئا مشوقا:
-لقد طار، هل رأيته؟
عادت تدحرج نحوي نظرات استغراب:
-لم أشاهد أي طائر!
ثم أردفت وهي تضع يدها على كتفي:
-قد تكون متعبا يا عزيزي، عد للنوم وحاول أن تنسى الأمر.
خجلت من زوجتي وقلت لها ودوامة الدهشة تدور بي:
-يبدو ذلك!
وعاد مجددا في اليوم الثالث، لكني ظللت فقط أستمع إلى نقراته حتى توقف عنها بعد مدة ليعقبها صوت خفقة جناحيه فأدركت أنه قد طار.
يومئذ انتظرت حتى جلست زوجتي معي على مائدة الإفطار فقلت لها، وأنا أصطنع صوتا صاخبا ممتزجا بالضحك:
-كم كنت محقة يا عزيزتي! يبدو أني كنت متعبا في اليومين السابقين، اليوم لم أسمع صوت نقرات ذلك الطائر!
ابتسمت زوجتي وهي تعدل تحتها الكرسي:
-لقد جعلتني أطمئن عليك.
وإلى اليوم.. مازال ذلك الطائر يأتيني مع مخاض السماء وهي تلد يوما جديدا، فيقف عند النافذة ويأخذ بالنقر عليها، لكني الآن صرت أستطيع تجاهله، وغدا إزعاجه لي تفصيلا يوميا اعتدت عليه كل صباح.
أحمد علي بادي
التعليقات مغلقة.