المسافر على جبل الجليد قصة قصيرة بقلم : ياسين لمقدم
مرت طوالا على تقاعده من الخدمة الحكومية ثلاث سنوات عجاف، لم يستغلها قط في شيء نافع أو ممتع رغم ما له من أجر شهري مريح وبضعة آلاف من الدراهم وفرها على طول عمره الوظيفي. أقصى ما كان يقوم به هو التمدد على ظهره لساعات طوال ومغالبة آلام التهاب مفاصله بتقليب شاشة هاتفه الذكي في ارتحال مكرور بين هرطقات المؤثرين وقصاصات الأخبار والمغامرات الطائشة على اليوتيوب، والرد على سباب المعلقين في احتدام صراع دونكيشوتي عربي.
التهاب المفاصل الذي أصابه بالتدريج منذ عقده الخامس يظهر أثره جليا على استحالة استقامة أنامل يده وأصابع قدمه وحوض وركه رغم كل المراهم والعقاقير والحقن التي كتبها له أطباء من كل التخصصات المفصلية والعصبية. وكل ما بقي له أن يداري به بعض الألم هي كمادات الماء المتجمد. ولكم أن تتخيلوا حدة لسعاتها في الأيام الباردة. وأغرب أسباب هذا الداء الذي أفرد فيه الأطباء فصل الخطاب ما قاله له طبيب مختص في الأوتار العصبية، إذ أرجع سبب العلة إلى الاستعمال المفرط للأصابع في الإدمان على التنقيب المتشنج في ثقبتي الأنف لاستئصال ما بهما من مخاط متصلب.
بينما كان يقلب شاشة هاتفه الصغيرة، شده خبر جنوح جبل جليدي في حجم ملعب كرة قدم عن محيطه المتجمد وتوجهه نزولا إلى جنوب القطب الشمالي وقد يصل للسواحل الأطلسية على حواف طنجة خلال فترة تتراوح من شهر إلى شهرين إذا لم تتغير الظروف البحرية الحالية.
عنت في ذهنه فكرة أغرب من الخيال إذ رأى نفسه يركب ظهر الجبل الجليدي في رحلة أزلية لما تبقى له من عمر. وسيتقلب طوال اليوم شبه عار على ظهر الجبل المتجمد إلى أقصى الآماد حيث ستنتهي به الرحلة إلى التخلص الكلي من آلامه المزمنة. وأكيد ستشغل الرحلة بال الناس في العالمين إذ سيجعل مركبه الجليدي متصلا بشبكة النت العالمية وعبرها سيبث روتين رحلته على المباشر. وبذلك سيضمن أُنسة في السفر وتمويلا غير مباشر.
في غده استجمع كل قواه وتوجه للمصلحة الحكومية المكلفة بتدبير شؤون البحر. وبعد شد وجذب لعدة أيام، اقتنع ألا يمكنه تحصيل أي ترخيص رسمي لخوض غمار البحر في رحلة محفوفة بكل أنواع الهلاك. وما بقي أمامه إلا أن يسلك طرقا أخرى لركوب الجبل الجليدي الذي يبدو وحسب آخر الأخبار أنه تجاوز بسلام خلجان المملكة المتحدة ومحيطها الصخري الحاد في نزوله نحو بحار أفريقيا.
في مساء قريب، توجه نحو شواطئ التهريب والهجرة، لملاقاة ملاح متمرس على خوض مضيق جبل طارق في حلك الليالي وعتي هيجان البحر. ولأن المهربين لا يأمنون ظلالهم، تحدث إليه الخارج عن القانون أولا من وراء حجب الظلام، وبعدما استأنس فيه ضربا من الجنون الممزوج بالمغامرة والأمل، قرر أن يجادله عن قرب عن ثمن حمله على قارب متخفي لاعتراض جبل الجليد حيث ستبدأ رحلة الشفاء على بحر الظلمات وتحت رحمة التيارات البحرية والهوائية التي سيترك لها عنان مراسيه.
ولأن المهرب له علاقات متشعبة بكل أنواع البشر، رسميين وخارجين عن القانون، فكان من السهل عليه معرفة المكان الذي وصل إليه جبل الثلج اعتمادا على صور أقمار صناعية تسرب إليه بمقابل خدمات أخرى.
بعد أيام قليلة رن هاتف المتقاعد معلنا عن موعد الإبحار، حمل زاده الكبير وتوجه في عمق الليل نحو الأحراش البحرية حيث تتوارى يخوت المهربين.
بعد ساعات من الإبحار غربا تجاه المياه الدولية، عنت للمبحرين في أقصى الأفق الغربي تحت شمس الشروق الملقمة برياح متقلبة قائظة نقطة بيضاء تمخر البحر وتسر الناظرين. توجهوا إليها متسارعين ولكنها كانت أقرب مسافة إليهم عكس ما ظنوه أولا… اشتدت خيبتهم حين وجدوا الجبل استحال إلى مجرد لوح جليدي صغير بعد انصهاره بلفحات ريح الجنوب الحارقة…
التعليقات مغلقة.