جحا الضاحك المضحك تأليف: عباس محمود العقاد ط. دار نهضة مصر ٢٠٠٠معرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي
جحا الضاحك المضحك تأليف: عباس محمود العقاد ط. دار نهضة مصر ٢٠٠٠معرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي
الضحك ضحوك عدة، فنحن نضحك لأسباب كثيرة، ولسنا نضحك لسبب فرد لا يتعدد، ويوشك أن يكون لكل حالة من حالات ضحكتها التي تصدر عنها ولا تصدر عن حالة غيرها، كأنما هي لغة كاملة على أسلوبها في التعبير.
هناك ضحك السرور والرضا، وهناك ضحك السخرية والازدراء، وهناك ضحك المزاح والطرب، وهناك ضحك العجب والإعجاب، وهناك ضحك العطف والمودة، وهناك ضحك الشماتة والعداوة، وهناك ضحك المفاجأة والدهشة، وهناك ضحك المقرور وضحك المشنوج وضحك السذاجة وضحك البلاهة، وما يختاره الضاحك وما ينبعث منه على غير اضطرار، بل ربما كان لكل مضحكة من المضحكات ألوان لا تتشابه في جميع الأحوال، فالضاحك المسرور قد يكون سروره زهوا بنفسه واحتقارا لغيره، وقد يكون سروره فرحا بغيره، لا زهو فيه بالنفس ولا احتقار للآخرين..
والضاحك الساخر قد يضحك من عيوب الناس؛ لأنه يبحث عن تلك العيوب ويستريح إليها ولا يتمنى خلاص أحد منها، وقد يضحك من تلك العيوب لأنه ينفس عن عاطفة لا يستريح إليها عامة بين أخوانه الآدميين.
والضاحك من عيوب السخف والحماقة، قد يضحك من السخيف الأحمق، أو يضحك من الذي يحكيه من سخافته وحمقه، وكلاهما باعث من بواعث الضحك مخالف لغيره في أثره وداعيه ومعناه.
وربما كان ( الضحك) مغريا بالاستخفاف منافيا للجد في بواعثه ومعانيه.. ولكن البحث عن أسباب الضحك جد كأصدق الجد الذي يعرفنا بنفوسنا كما يعرفنا بها أعظم العظائم وأفدح المحزنات، بل ربما كان الأمر ( المحزن) لا نحار فيه، ولا يخفى علينا أنه يرجع إلى حب السلامة، وكراهة الضرر والإصابة.
ويرى العقاد أن الضحك يسري مسرى اللغة بين بني الإنسان، حيث إنه يؤدي لجميع الناس معاني مشتركة يتقاربون بها على تباعد المنازل والأجناس، وهو كاللغة يختلف بين وطن ووطن، وبين جنس وجنس، كما يختلف بين قائل وقائل في مناهج التعبير بين المتكلمين بلسان واحد في أسرة واحدة.
لماذا نضحك؟
قد يضحك الإنسان من نفسه إذا كان الاستهزاء لا يناله وحده.. ويضرب المؤلف مثلا باجتماع ملوك أوروبا وأمرائها وقوادها سنة ١٨١٥م في فيينا، وهم واثقون أنهم أحكموا الشبكة على بونابرت، وقد جلسوا يصلحون ما أفسده ويعيدون مادرسه من معالم أوروبا ـ أعلن في المجلس أن الرجل قد أفلت من جزيرة ألبا، وأنه عاد ثانية إمبراطورا على فرنسا، فوجموا هنيهة، ثم ارتفعت لهم ضحكة طويلة عالية، كأنما يقول كل منهم: إن هذا الكورسيكي لم يعبث بي وحدي، بل عبث بنا جميعا.
ويبكي الإنسان لغير ما يضحك له: يبكي حين يظهر به النقص والعجز ظهور لا سبيل إلى المداجاة فيه.. يبكي في المواضع التي يشعر لديها بالقهر التام، ويتحقق له تجرده من الحول والقوة حيالها.
الضحك والبكاء نقيضـــــــــــــان
يرى العقاد أن هذه المقابلة ليست بالصحيحة في جميع نواحيها، إذ نحن لا يضحكنا كل شىء ولا يبكينا، وقد يكون الشىء مضحكا ومبكيا كما يقول أبو الطيب:
وكم ذا بمصر من المضحكا ت ولكنه ضحك كالبكا
والأصح أن الضحك لغة تعبر عن كثير من الحالات، وليس من اللازم أن يقابله البكاء في كل حاله، وقد قال الشاعر بيرون وغيره:« إنني أضحك لكي أبكي».
ويخلص إلى أن الشعور بالمضحكات والمحزنات ملكة إنسانية وجدت في الإنسان ولم توجد في الحيوانات؛ لأنه يدرك المشابهة، ويحس بالتعاطف، ويستدعي الخواطر من قريب أو بعيد.
ملڪـــَـــــــــة السخرية
ويتساءل العقاد ” لِمَ يسخر الإنسان؟ “، ثم أجاب قائلا:” إنه ينظر إلى مواطن الكذب من دعاوى الناس فيبتسم، وينظر إلى لجاجهم في الطمع وإعناتهم أنفسهم من غير طائل فيبتسم، وهذا هو العبث، وذاك هو الغرور.
ويرى أن العبث والغرور بابان من أبواب السخرية ـ بل هما جميع أبوابه كافةـ وكثيرا ما يلتقيان، فإن الغرور هو تجاوز الإنسان قدره، والعبث هو السعي في غير جدوى، ولا يكون هذا في أكثر الأحيان إلا عن اعتزاز من المرء بنفسه وتعد من لطوره.
مــــــــــرد النڪتة
ويورد العقاد تعريف الأستاذ البشري في مقدمة كتابه ” في المرآة ” ( إن مرد النكتة إلى خلل في القياس المنطقي، بإهدار إحدى مقدماته أو تزيفها أو بوصلها بحكم التورية ونحوها بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم، فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس.. وهذا الذي يبعث العجب، ويثير الضحك والطرب.
فالنكتة بهذا الضرب من أحلى ضروب البديع، زلا يعزب عنك كذلك أن النكتة إذا لم تكن محكمة التلفيق، متقنة التزييف بحيث يحتاج في إدراكها إلى فطنة ودقة فهم خرجت باردة مليخة، لا طعم لها في مساغ الكلام “
ويتفق العقاد مع البشري في جزء واحد من أجزاء هذا التعريف، وهو قوله: إن الخلل في القياس المنطقي مضحك، وأن التزييف والتلفيق داعية من دواعي السخرية، ويختلف معه في قوله: إن النكتة هي التي تشتمل على الخلل أوعلى التلفيق والتزييف؛ لأن اشتمال النكتة على خلل في القياس يسقطها ويلحقها بالهذر والمجانة، ويرى أن النكتة تضحكنا لأنها تفضح الخلل وتهتك الدعوى الملفقة، وتطلعنا على سخافة العقول التي لا يستقيم تفكيرها ولا تطرد حجتها، ومن ثم تكون النكتة هي المنطق الصحيح، وهي الحجة المفحمة، وهي البرهان الذي يرجع البراهين في معرض الجدل.
وقد يسأل سائل: لماذا تضحكنا النكتة السريعة، ولا يضحكنا القياس المفصل والفضيحة المبسوطة!
ويجيب العقاد عن ذلك قائلا: إن النكتة السريعة تضحكنا؛ لأنها تفاجئ التفكير بحالة مرتقبة، وتعجله على انتظار النتيجة في طريقها الممهد المألوف.
فالنكتة الصادقة ـ على حد قول العقاد ـ هي الحجة التي تظهر لنا فساد الأقيسة المختلفة، واضطراب النتيجة التي تأتي في غير موضعها، وتلتوي على مقدماتها، وهذه هي النكت التي تفيد النفس لأنها تروح عنها، وتفيد الذهن لأنها ضرب من المرانة على التفكير السريع، ولنكتة واحدة يفهمها الطالب حق الفهم خير من مائة درس في المنطق يقرؤها ويعيدها وهو لا يحسن القياس، ولا يفقه الدليل.
ويضحك الإنسان أحيانا إذ يخدع غيره في أمر كان ينبغي أن يحذره المخدوع وينتبه إليه، ومن ثم يرجع سبب الضحك في جميع الحالات إلى الشعور بالتفوق في نفس الضاحك حين يرى غيره يقع في حماقة، وأمر ينبيء عن جهالة.
ويقول العلماء أن الضحك خاصة إنسانية، أسبابه مجهولة، ويعنون بذلك أننا لا نعلم لماذا يكون الضحك مصحوبا بحركات جسدية معينة؟ ولماذا يحدث الضحك عند لمس الإبط أو نحوه؟!
والإنسان قد يضحك أحيانا حين يشعر أنه قد انخدع، كما يضحك من غفلة غيره حين تجوز عليه الخديعة البينة، وليس هذا دليل على الشعور برجحانه، بل هو دليل على شعور برجحان غيره عليه.
ويعرض العقاد لرأي دارون، الذي يرى أن الضحك قد يوجد بمعزل عن التفكير، كما يلاحظ على البلهاء وصغار الأطفال، الذين يضحكون ليعبروا عن حالة الرضا والارتياح، ولا يصحبون ذلك بفكرة أو خاطرة ذهنية، والأصحاء من الراشدين تعتريهم حالات الضحك لأسباب غير أسبابه في الطفولة، ويصدق ذلك على الضحك ولكنه لا يصدق على الابتسام.
الضحك في الكتب الدينية
في القرآن الكريم:
جاءت الإشارة إلى الضحك في القرآن الكريم مرة في قصة إبراهيم، ومرة في
قصة سليمان عليهما السلام، ففي قصة إبراهيم حين زاره الملائكة، فلم يعرفهم وخافهم، ثم بشروه بولادة إسحاق من زوجته سارة {فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)} [هود : 70-72]
فهنا خوف، فاطمئنان، فبشرى مفاجئة على غير انتظار، فتعجب لا تمتلك سارة أن تجهر به، فتقول: إن هذا لشىء عجيب.
ولا تغني هنا كلمة ” سرت أو كلمة استبشرت أو فرحت ” في مكان كلمة ضحكت؛ لأن الضحك ـ على حد قول العقاد ـ هو الأثر الملائم لهذه الحالة التي تشابكت فأصبحت في قرارة النفس متناقضات.
وجاء في القرآن الكريم عن قصة سليمان عليه السلام: {حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} [النمل : 18-19]
فها هنا عوامل الضحك على سجيتها ماثلة في نقائضها الدقيقة ومصاحباتها التي تقترن بها على حسب هذه المناسبة دون غيرها، وهي مناسبة مخالفة في بعض أجزائها لمناسبة الضحك في قصة إبراهيم.. هنا الفارق الشاسع بين ضآلة النمل وبين ضخامة الملك الذي أوتيه سليمان، وهنا رضي سليمان بما تفيضه نعمة الملك العريض من السعة، ولا يفهم عنها ما تقول.
وورد الضحك في آيات متفرقة بمعنى السخرية والاستهزاء، فجاء في سورة المطففين:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35)} [المطففين : 29-35].
فالضحك هنا مقترن بالتغامز الخفي، كأنما يحسب المستهزئون أنهم يستغفلون المؤمنين الذين يمرون بهم، فيسخرون منهم بالتغامز بينهم، ويضحكون إذا التفت إليهم المؤمنون على حين فجأة، فلا يملكون إخفاء العبث والسخرية، كما يحدث دائما بين المتغامزين إذا انكشفوا وامتنع عليهم الكتمان والتمادي في الاستهزاء من وراء الأنظار.
والضحك الأخير يأتي حين لم يكن في الحسبان؛ لأن الكفار كانوا يضحكون، فإذا بهم قد انقلب عليهم الأمر فهم أضحوكة للضاحكين.
وجاء في سورة الزخرف:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47)} [الزخرف : 46-47]
وضحك المفاجأة هنا واضح من طلب الآيات، ثم إخلاف ظن موسى عليه السلام؛ لأنهم عبثوا به، وهو ينتظر منهم بعد مجيئهم بالآيات أن يؤمنوا، فإذا هم يفاجئونه بما لم ينتظر من إصرارهم على الكفران.
ويرى العقاد أنه لابد في كل ضحك من الشعور بالمفاجأة في الضحك أو فيمن يتعرض للضحك، فهو شعور ملازم للمضحكات من طرفيها.
وفي سورة النجم عن نوح عليه السلام:{وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ (55) هَٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ۩ (62)} [النجم : 52-62]
ففي هذه الآيات يحسب الرسول أن يأتيهم بما يبكيهم، فلا يحسون داعية للبكاء، ويستغربون فينتقل بهم الاستغراب من أحاديث الرسول عن نذير الأزفة المطبقة إلى الأمان الذي يتصورونه ولا يحسون غيره، وبين هذين النقيضين المتباعدين يتعجب القوم ويضحكون.
والضحك من البلاء الذي لا يحسه السامع، ويحس نقيضه، كالضحك من البلاء الذي يحسه ويحس أنه ناج منه، وقد تكرر ذكر الضحك بهذا المعنى، فجاء في سورة التوبة عن المخلفين الذين فرحوا بمقعدهم عن القتال: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)} [التوبة : 81-82]…
في التوراة:
جميع ماورد في العهد القديم عن الضحك فإنما يفهم الضحك فيه بمعنى الاستهزاء والسخرية إذا كان من المنكرين، وبمعنى الاستغراب والدهشة إذا كان من المؤمنين.
ففي سفر أشعيا يقول النبي عن الأمراء والسادة: “اسمعوا كلام الرب يا رجال الهزء ولاة هذا الشعب الذي في أورشليم”.
وفي الأمثال في الإصحاح الأول كلام عن ضحك الشماتة والاستهزاء، يقول فيه صاحب السفر:” أني دعوت فأبيتم ومددت يدي وليس من يبالي، بل رفضتم كل مشورتي ولم ترضوا توبيخي، فأنا أيضا أضحك عن بليتكم، أشمت عند مجيء خوفكم “.
في الإنجيل:
أما في العهد الجديد، فقد جاء ذكر الضحك في إنجيل لوقا على لسان السيد المسيح حيث يقول، وقد رفع عينيه إلى تلاميذه:” طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون، طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون”. وهنا يأتي الضحك مقابل للبكاء ولا يخلو من دواعي الضحك في جميع الأحوال، وأهمها تبدل الحالة والمقابلة بين النقيضين.
الإنســـــــــــــانية والفكاهة
يرى العقاد أن من أصح الأقوال، قول برجسون إن الضحك ملكة إنسانية من طرفيها، فلا يضحك إلا إنسان، ولا شيء يضحكنا إلا أن يكون إنسانيا في صورة من صوره، ولو على سبيل التشبيه.
ولنا أن نقول إن الإنسان حيوان ضاحك، كما نقول إن الإنسان حيوان ناطق.
والثابت الذي لاشك فيه عن جميع الأمم أنها أخرجت نوابغ الفكاهة في جميع أجيالها، وتركوا أثرا في الآداب والفنون.
ففي الشرق أمة الفرس مشهورة بالنكات القديمة والحديثة في عهد الحضارة الكسروية، وفي المغرب نجد الأمة الفرنسية كذلك.
وهناك مقياس آخر للفكاهة الشائعة بين بني الإنسان، التي تعرض لجميع الأمم في حالات متماثلة، وهي حالات التنفيس عن الحرج أو حالات التمرد والاحتجاج على البدع الشائعة، ولاسيما البدع التي حان لها أن تزول، أو تبدلت دواعيها بتبدل الأحوال.
فوارق الأمم في الفكاهة
ويجمل العقاد القول في أصول الفكاهة وصولا إلى فكاهة جحا أو الفكاهة المنسوبة إليه في الأمم التي عرفته وتمثلت بحكاياته، وهي الأمة العربية، والأمة الفارسية، والأمة التركية، وكادت الأخيرة أن تستأثر به في معظم نوادره، حتى قيل أن جحا المشهور اليوم إنما هو جحا جديد من مخلوقات البديهة التركية، تنقطع الصلة بينه وبين جحا القديم الذي عرفه العرب في أمثالهم ورجع به التاريخ إلى صدر الإسلام، فلا يجمع بينهما غير التسمية باسم واحد.
فإذا عنينا بفوارق الأمم في الفكاهة والمضحكات، فنجد أنه من الوصف الصادق لسليقة الأمة العربية نجد أنها أمة شعرية منطقية، والوصف الصادق لسليقة الأمة الفارسية أن نقول إنها أمة صوفية دبلوماسية، ومن الوصف الصادق لسليقة الأمة التركية أن نقول إنها أمة عملية واقعية.
ويطمئن العقاد إلى أن جحا غير واحد قطعا؛ لأن النوادر التي تنسب إليه لا تصدر من شخص واحد، لتعدد العصور التي قيلت فيها، ولاختلاف الشخصيات التي تصورها في مجموعها، فمنها ما يكون التغفيل فيه من جحا، ومنها ما يكون فيه جحا صاحب الذكاء النادر والطبع الساخر، ومنها من تتمثل فيه الحماقة بغير مراء…
ويخلص العقاد إلى أننا نستطيع أن نتقبل أبا الغصن جحا كما ذكره الميداني في أمثاله، كأنه شخصية تاريخية لا غرابة في وجودها، ولا داعية للشك في إمكان وقوع النوادر المنسوبة إليها، فإن الذين يشبهون أبا الغصن هذا في غفلته وسهواته يوجدون في كل بيئة، وفي كل زمن، وإن تنوعت المناسبات والأحوال التي تكشف للناس عما طبعوا عليه من غفلة.
التعليقات مغلقة.